بدأ حديث المقالة السابقة عن سادس خلفاء «مصر» الفاطميِّين: «المستعلى بالله» (٤٨٧- ٤٩٥هـ) (١٠٩٤- ١١٠١م)، الذى تولى الحكم بعد موت أبيه «المستنصِر بالله»؛ وعرضت المقالة لما شب من منازعات وحروب بين «نزار» الابن الأكبر للخليفة «المستنصِر» وبين الوزير «الأفضل شاهَنْشاه»، والتى انتهت بموت «نزار»؛ ثم ما كان من انشقاق بين «مستعلية» يتبعون «المستعلى» وبين «نزارية» يناصرون «نزارًا».
وقد شهِدت أيام حكم «المستعلى» زحف «الفرنجة» للاستيلاء على الشرق حتى وصلوا إلى «بيت المقدس»؛ فخرجت الجُيوش لملاقاتهم. أمّا فى «مِصر»، فقد ذكر المؤرخون أنه فى سنة ٤٨٩هـ (١٠٩٦م) نظم «الأفضل» الجيوش للسير بها إلى مدينة «بيت المقدس»، التى كانت تحت حكم السَِّلچوقيِّين، فحاصرها وقاتلهم، وقيل إن أهلها ساعدوه وفتحوا له بابها بعد أن أمّنهم، فى حين هرب السلاچق
وفى سنة ٤٩٢هـ (١٠٩٩م)، جاء «الأفضل شاهَنْشاه» إلى «بيت المقدس» مرة ثانية وحاصرها، وذلك بعد أن وصله خبر حصار «الفرنجة» لها، فأسرع فى جيش كبير من عشرين ألف جندى ووصل إليها ثانى يوم فتح «الفرنجة» لـ«بيت المقدس»، وهو لم يكُن يعلم باستيلائهم عليها بعد، فدارت معارك عنيفة قيل إن «الأفضل» كاد أن يُقتل فيها؛ وقد قُتل فيها جنوده بأعداد كثيرة، حيث يذكر «ابن التَّغرى»: «فقصده «الفرنج» (الفرنجة) وقاتلوه فلم يثبت لهم، ودخل «عسقلان» بعد أن قُتل من أصحابه عدد كثير، فأحرق «الفرنج» ما حول «عسقلان» وقطّعوا أشجارها، ثم عادوا إلى «القدس» (بيت المقدس). ثم عاد «الأفضل» إلى «مِصر» بعد أمور وقعت له مع «الفرنج»».
كذلك ذكر بعض المؤرخين أن «الأفضل» عاد بحرًا إلى «مِصر» تاركًا «عسقلان»، وأنه لم يخرج بنفسه مرة ثانية لمقاتلة «الفرنجة»، لكنه أرسل الحملات المتتالية؛ ففى عام ٤٩٣هـ (١٠٩٩/١١٠٠م)، ذكر آخرون: ٤٩٤هـ (١١٠٠-١١٠١م)، أرسل «الأفضل» جيشًا عظيمًا لمحاربة «الفرنجة» بقيادة «سعد الدولة القَوّاسى»؛ فدارت معارك شديدة الوطأة بـ«عسقلان»، ذكر عدد من المؤرخين أنها انتهت بهزيمة «الفرنجة» وقتل عدد كبير منهم، فى حين لم يُقتل من المِصريِّين سوى «سعد الدولة القَوّاسى» وقليل من الجنود. وقيل إن «الأفضل» حاول توحيد جهود «مِصر» و«دمشق» فى محاربة «الفرنجة»، لكنه تُوفِّى قبل أن يكتمل له مراده.
وفى سنة ٤٩٥هـ (١١٠١م)، تُوفِّى «المستعلى بالله» بعد أن جلس على عرش «مِصر» سبع سنين وشهرين وبضعة أيام، وكان المتصرف فى شؤون الدولة آنذاك الوزير «الأفضل شاهَنْشاه»، ابن أمير الجيوش؛ ويُذكر عنه: «وكان «المستعلى» حسن الطريقة فى الرعية، جميل السيرة فى كافة الأجناد، ملازمًا لقصره كعادة أبيه، مكتفيًا بالأفضل فيما يريده…». وقد خلفه فى حكم «مِصر» ابنه «منصور».
«الآمِر بأحكام الله» (٤٩٥- 524هـ) (١١٠١-١١٣٠م)
سابع خلفاء الفاطميِّين على «مصر»، ويُدعى «منصور»، وكُنيته «أبوعلى»، وهو ابن «المستعلى بالله». تولى أمور الحكم، وله من العمر خمس سنوات، واستمر فيه نحو تسع وعشرين سنة وتسعة أشهر، أيام الخليفة العباسى «المستظهِر بالله». ذكر عنه «الحافظ أبوعبدالله شمس الدين مُحمد الذهبى»: «كان رافضيًّا كآبائه… ذا كِبْر وجبروت؛ وكان مدبر سلطانه «الأفضل شاهَنْشاه» ابن أمير الجيوش.
وُلى «الآمِر» وهو صبى؛ فلما كبر، قتل «الأفضل» وأقام فى الوزارة «المأمون أبا عبدالله»، فظلم وأساء السيرة، إلى أن قبض عليه «الآمِر» سنة تسع عشرة وخمسمائة (١١٢٥م)، وصادره ثم قتله».
وقد شهِدت أيام «الآمِر بأحكام الله» استيلاء «الفرنجة» على عدد من المدن؛ فيذكر «الذهبى» أنهم استولَوا على «عكا» سنة ٤٩٧هـ (١١٠٣م)، و«طرابلس» سنة ٥٠٢هـ (١١٠٨م)، ثم «عَرْقة» بلُبنان و«بانياس». وفى سنة ٥٠٣هـ (١١٠٩م)، أخذوا مدينة «بيروت» عنوةً، أعقبها الاستيلاء على «صيدا» عام ٥٠٤هـ (١١١٠م)، ثم توجه «الفرنجة» إلى «مِصر» حيث دخلوا «الفرَما»، لكنهم لم يصلوا إلى «العريش».
و… والحديث فى «مصر الحلوة» لا ينتهى!.
* الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى