كلمة البابا تواضروس الثاني خلال فاعليات افتتاح أعمال الجمعيّة العامة الثانية عشرة لمجلس كنائس الشرق الأوسط
أصحاب القداسة والسيادة والنيافة الآباء البطاركة والمطارنة والأساقفة والكهنة
المسيح قام.. حقا قام
يفرحني كثيرا أن أرحب بكم على أرض مصر التي تباركت بزيارة وسكنى العائلة المقدسة في ربوعها.. ويزيد من فرحتي أن تكون إقامتكم المباركة في منطقة وادي النطرون
التراثية القديمة المتجددة العامرة بأديرتنا القبطية على مدى قرون الرهبنة منذ أبينا أنبا أنطونيوس الكبير وأنبا مقار مؤسس الرهبنة في هذه المنطقة.
وادي النطرون حيث ملح النطرون الذي استخرجه أجدادنا الفراعنة هو واد ذو تاريخ وقداسة، إذ يعتبر من محطات رحلة العائلة المقدسة من ناحية ومن أكبر تجمعات الرهبنة في التاريخ القبطي من ناحية أخرى. إذ احتضنت عددا كبي ار من الأديرة والقلالي والرهبان والنساك منذ القرن الرابع الميلادي.. وكان لأهمية المنطقة في تاريخ وحاضر كنيستنا أن سعينا جادين لأن يوجد مركز لوجوس البابوي لاستضافة أحبابنا وضيوفنا الكرام في رحابة الأجداد ونسك الآباء وبركة العائلة المقدسة، مع هدوء طبيعة الصحراء، ونقاء زرقة السماء، وصفاء الأجواء.
أرحب بكم إذا ونحن في أفراح القيامة بكلمات بطرس الرسول:
” مُبَاَركٌ اللُه أبُو ر بنَا يَسُوعَ الْمَسِّيحِّ، الذِّي حَسَبَ رحْمَتِّهِّ الْكَثِّيرةِّ وَلَدَنَا ثَانِّيَةً لِّرجَاءٍ حَيٍ، بِّقِّيَامَةِّ يَسُوعَ الْمَسِّيحِّ مِّنَ الأمْوَاتِّ ” (1 بط 1: 3) .. تلك الرحمة الكثيرة التي لله الآب والتي بها ولدنا ثانية بقيامة الرب يسوع من بين الأموات هي عينها التي تمنحنا الرجاء الحي أمام تحديات كبيرة يواجهها عالمنا المعاصر بشكل عام، ومنطقتنا الشرق الأوسط بشكل خاص.. إذ تنمو يوما بعد ي وم أخبار الحروب وض اروة الن ازعات وقسوة الإرهاب ،ونتساءل كمسيحيين يعيشون وسط هذه القسوة من أين الحروب والمخاصمات؟ تلك الحروب والمنازعات غالبا ما تبدأ داخل النفس البشرية الطامعة التي تطلب المزيد ولا تكتفي.. النفس البشرية التي كبرت في الأنانية وتعظم المعيشة والاستهلاكية المفرطة في كل موارد الطبيعة المتاحة للإنسان لأجيال وأجيال.. تلك الأطماع جعلتها تقع فريسة الطمع والشهوة والحسد والقتل والحرب..
تلك الأطماع أيضا انتهكت الطبيعة وشوهت البيئة ولم تدرك معنى المسئولية عن الخليقة.. فقد وهب الله الإنسان منذ خلقه سلطانا على الطبيعة والمخلوقات لا ليستنفذها ويستغلها استغلالا شريرا بل ليكون مسئولا عنها.. يرعاها.. ينميها.. يحافظ على كل تفاصيل خلقتها الجميلة..
ويحميها بل ويحبها.. فما كان منه إلا أن أرهق الطبيعة من حوله بالافراط في استغلالها لمشروعاته واخت ارعاته ورفاهيته بشكل يكاد يكون أحمقا أحيانا.. فانقلبت الطبيعة عليه وصارت تلفحه بالح اررة الشديدة أحيانا ،وتغرقه بالتسونامي في أحيان أخرى، أو توقف عنه أمطارها، أو يصعقه جليدها.. كما صارت الموارد شحيحة بسبب الافراط في استخدامها مما زود الأطماع البشرية ومن ثم الرغبة في حيازة موارد أخرى حتى لو كان هذا عن طريق القتل والحرب..
ونتيجة لذلك ،صار العالم كله ومنطقتنا بوجه خاص يعاني من الحروب والنزاعات والحركات الارهابية المتطرفة مما أدي لمشكلات صعبة تتمثل في ازدياد أعداد اللاجئين والمهاجرين، ونشأة أجيال جديدة لا تعرف هويتها ولا تعي معنى الانتماء.. كما اعتاد العالم معايشة العنف حتى صار في بعض المناطق مجرد شكل من أشكال الحياة اليومية وصار القتلى والجرحى والمصابين مجرد أعداد تزيد يوما بعد يوم دون أن يحرك العالم ساكنا تجاه تلك الكوارث.. وازدت معدلات الفقر والجهل والأمراض بالإضافة للجائحة العالمية وقسوة الظروف المناخية أيضا.. فساءت أحوال كثير من المجتمعات التي صارت تذوق ويلات وويلات كل يوم بسبب هذه الأطماع وتلك الصراعات..
نستنكر كل تلك الأفعال القاسية التي تنبذ الرحمة وتستهين بالحياة الإنسانية التي هي هبة الله وحده.. نستنكر كل اعتداء على بلاد آمنة ومجتمعات سالمة.. نستنكر الاعتداءات المتكررة على المقدسات المسيحية والإسلامية في القدس ..وإذا كان امتحاننا كمسيحيين أن نكون في وسط كل هذه الشرور في العالم، فنحن نؤمن أن الله ضابط الكل يرى ويعاين ويقضي وعيناه تنظران..
لذا نجد أنفسنا أمام مسئولياتنا وتدوي داخل أنفسنا ضمائرنا التي يحركها الروح القدس تقول لنا أننا صوت الحق.. أننا كالمعمدان: صوتُ صارخٍ في برية العالم يقول للعالم كله أن أعدوا طريق الرب واصنعوا سبله مستقيمة ..ومن ثمَ يأتي لقاؤنا هذا بعنوان: تشجعوا أنا هو لا تخافوا. .
وهي الكلمات عينها التي شجع بها الرب يسوع تلاميذه وطمأنهم لما كانت سفينتهم معذبة من الأمواج تماما كما تستشعر الكنيسة اضطرابات وأمواج العالم.. ولكن الرب يطمئن قلوبنا بكلماته ويشجعنا أن نكون نور العالم وملح الأرض بكلمة الحق.. فالكنيسة هي حارسة الأخلاق ومنبر التعليم ومذبح الخدمة وحصن المحبة وغارسة الحياة الأفضل. .
نتشجع بكلمات الرب لننطق بالحق ونعلن مواقفنا الثابتة أمام التحديات الأخلاقية التي باتت تشوه الطبيعة الإنسانية الرفيعة التي هي على صورة الله ومثاله بخلق قناعات واهمة عن المثلية الجنسية والعلاقات غير الطاهرة والتحول الجنسي والتفكك الأسري واللادارية والإلحاد.. ولا ننساق وارء تبريرات واهية يزعم العالم أنها تبرر الخطية والشهوات.. إذ أن تلك المبررات تمحو كلمة الحق وتحيد بالعالم عن الطريق والحق والحياة وتبدله بالتيه والزيف والموت.. فقد جبل الله الطبيعة الإنسانية سامية رفيعة مكللة بالعقل والفهم والحكمة والنطق حتى ما تستمر الحياة الإنسانية في أسرة ومجتمع يتمتع بالحياة والطبيعة ويسعى نحو الأبدية السعيدة.. وقدأعلمنا الله بقصده الإلهي من وجودنا في هذه الحياة، لذا يخطئ من يبرر تلك الخطايا ويصير جاهلا وبلا عذر..
نتفهم أيضا تحديات العصر التي تتمثل في تكنولوجيا ما بعد الحداثة التي نعيش فيها الآن.. وتسعى كنائسنا للاستفادة من شبكات التواصل الاجتماعي كما تسعى للاستفادة من كل محركات البحث الحديثة والامكانيات الضخمة التي صارت تحت أيدينا بوجود الانترنت.. وقد ساهم كثيرا في الخدمة والرعاية طوال وقت الجائحة.. ولكننا ندرك في الوقت نفسه خطورة تلك الأدوات التي صارت تستخدم بطرق شريرة في تدمير حياة الأسرة والشباب، بل والأطفال.. باخت ارق الخصوصية، ونشر الأكاذيب، والدعوة إلى الأفكار الخاطئة والشاذة.. بل وتحولت إلى صورة من صور الإدمان وإلغاء العقل وجر الكثيرين إلى اعتناق الخطأ ونبذ العالم الحقيقي والواقع في مقابل العالم الافتراضي والصورة..
مما وضع علينا مسئولية أكبر إذ أضاف لكنائسنا واجبا ودورا ايجابيا وواضحا ومؤثرا أثناء الأزمات.. ترعى كنائسنا الفقراء، والضعفاء، والمتعبين والثقيلي الأحمال ،والأيتام ،والمنبوذين، والمهمشين، واللاجئين، والمحرومين، والذين ليس لهم أحد.. علينا أن نحمل تلك المسئولية تجاه مجتمعاتنا بفرح كما مسيحنا.. وعلينا أن نسدد احتياجات الجميع مادية كانت أم نفسية، وقطعا الروحية أيضا، بقدر استطاعتنا وبكل ما أوتينا من جهد.. دورنا وخدمتنا لا تقف عند جنس أو نوع أو دين أو جنسية بل تمتد لتشمل كل إنسان.. نعرف جيدا معنى الإنسانية.. وندرك قيمة الإنسان..
نحترم عقيدة وفكر كل واحد.. ونثمن الحياة والوجود الإنساني.. نرشد الضال، ونعين الحائر، ونقوم المعوج، ونعلن الحق في كل وقت.. هذه هي مبادئنا التي نؤمن بها ونسعى لتحقيقها..
في ختام كلمتي أود أن أشكر كل من تعب في إعداد وخدمة هذا اللقاء ليظهر بالصورة التي تليق بكم أصحاب السيادة والنيافة وكل الضيوف.. أود أن أشكرهم واحدا واحدا وواحدة واحدة وأقول لهم من أعماق قلبي أنه لولا تعب محبتكم الذي بلا أبواق ولا إعلان لم يكن هذا اللقاء لينجح.. شكرا لكم. .
كما أختم مؤكدا أنني أثق أن اجتماعنا هذا هو لتشجيعنا بالرجاء بالروح القدس الساكن فينا ..وأصلي أن تكون فترة تواجدنا معا فرصة لتبادل المحبة ولعمل مثمر بناء وللتأمل والصلاة واختبار نعمة الرب يسوع العاملة فينا. كما أتمنى أن تنعموا عندنا بإقامة طيبة وأيام هادئة وأجواء سلامية..