حدثتنا المقالة السابقة عن كاروز الديار المِصرية، أول بطاركتها القديس «مرقس الرسول»، الذى بشر بالمَسيحية فى «مِصر» وأسس فيها كرسى الإسكندرية، كما أسس «مدرسة الإسكندرية اللاهوتية» التى تصدت لكثير من الأفكار الوثنية والفلسفية.
وقد وضع القديس «مرقس الرسول» أسس الفكر والإيمان والحياة المَسيحية للمِصريين، وبعد استشهاده بدأ باباوات الكرسى المرقسى يسيرون على نهجه، محافظين على الإيمان الذى تسلموه منه والذى تسلمه من السيد المسيح.
وفى الخامس عشَر من مايو، تحتفل الكنيسة القبطية الأرثوذكسية بدُرّة باباواتها السائر على الجهاد الرسولى لأبيه القديس «مرقس الرسول» وسائر الآباء الرسل الأطهار: «البابا أَثَناسيوس الرسولى»، العشرين فى بطاركة الإسكندرية، الذى صنعت حياته تاريخًا لا ينمحى، وترك جهاده علامة منيرة شديدة التوهج فى ميراث المسيحية فى «مِصر» وسائر العالم.
إنه البابا الذى وقف أمام العالم بأسره يحافظ ويدافع عن الإيمان المستقيم، حتى قيل فى شأنه: «هذا الأسقف العظيم حقًّا، الذى لم يكُن أعظم منه أحد قط؛ فقد وقف وحيدًا يدافع عن (مجمع نيقية)»، والذى حين قيل له: «العالم كله ضدك يا (أَثَناسيوس)».. لم يبالِ إلا بالحفاظ على أمانة التعليم وسلامته ونقاوته فأجاب: (وأنا ضد العالم)»!!، فاستحق أن يتكلل بلقب «حامى الإيمان».
لم تكُن شجاعته فى التصدى للتعاليم الخاطئة هى صفته الوحيدة، بل عُرف بالحكمة الشديدة، والروحانية العميقة، والصبر الذى لا يُبارى فى احتمال الضيقات والمحن والشدائد، حتى إنه تعرض للنفى خمس مرات على مدى قرابة 17 عامًا من زمان رئاسته الكنيسة!!.
البابا أَثَناسيوس الرسولى (٢٩٦ــ٣٧٣م)
وُلد فى «الإسكندرية»، وإن كان يرى بعض المؤرخين أن موطن ولادته الصعيد، ثم نزحت عائلته إلى «الإسكندرية». تُوفى والده وهو ما يزال صغيرًا. وفى «الإسكندرية» تلقى علومه الدراسية والدينية، فبرع ونبغ فى تحصيلها حتى صار أحد علماء عصره.
صار «أَثَناسيوس» مَسيحيًّا فى صباه. وفى يوم ما، شاهد البابا ألكسندروس (التاسع عشر فى بطاركة الإسكندرية) من شرفته بعض الغلمان و«أَثَناسيوس» يلعبون، وكان يعمدهم!!! وعندما سألهم الأب البطريرك عما يفعلون، عرف أن «أَثَناسيوس» يعمد بعض الوثنيِّين، ولاحظ أنه كان يعمدهم بالطريقة الصحيحة!!.. وبعد تلك الواقعة أصبح «أَثَناسيوس» تلميذًا للبابا «ألكسندروس»، فاعتنى به وبتهذيبه وتثقيفه بالعلوم، وبخاصة اللاهوتية، فألحقه بـ«مدرسة الإسكندرية اللاهوتية».
ثم قضى «أَثَناسيوس» قرابة ثلاث سنوات مع أب جميع الرهبان مؤسس الرهبنة المَسيحية فى «مِصر» وسائر العالم: القديس «أنبا أنطونيوس»، وتتلمذ على يديه.
رسّم «البابا ألكسندروس» تلميذه «أَثَناسيوس» شماسًا، واصطحبه إلى مدينة «نيقية» حيث مجمعها المسكونى المنعقد سنة ٣٢٥م، وفيه تصدى «أَثَناسيوس» لـ«بدعة آريوس» التى كانت قد انتشرت على نطاق واسع فى كنائس العالم.
فتمكن من مُحاججة الآريوسيين وإثبات فساد تعليمهم: فتذكر المؤرخة Juan Wucher King فى كتابها «معجم تاريخ مصر»: (وشارك «أَثَناسيوس» فى «مجمع نيقية» المسكونى (٣٢٥م)، الذى دعا إليه الإمبراطور «قسطنطين الأول».
ومن خلاله نجح فى توحيد رجال الدين المَسيحى الحاضرين فى اتخاذ موقف إدانة للآرية (الآريوسية).. وحازت كتابات أَثَناسيوس عن اللاهوت والموضوعات الأخلاقية شعبيةً واسعة النطاق فى حينها، وبين الباحثين المَسيحيين فيما بعد).
ويذكر العالم اللاهوتى والمؤرخ الكنسى August Neander: (أثبت «أَثَناسيوس» وجوده فى «مجمع نيقية» بغيرته وحِدّة بصيرته التى دافع بها عن عقيدة وَحدة الجوهر حتى صرع الآريوسيين. واستمر «أَثَناسيوس» بنفس قوته وحِدّته.
وعلى مدى نصف قرن، يتتبع حركاتهم بصلابة وثبات لا ينثنيان، مقابلًا فى سبيل ذلك شتى صنوف الاضطهادات والمقاومات والآلام، ولم يأبه إطلاقا بتهديد الإمبراطور، مع أنه هو و«مِصر» كلها كانا تحت الاحتلال!!).
وبعد نياحة «البابا ألكسندروس»، رُسم «أَثَناسيوس» بطريركًا على كرسى مار «مرقس الرسول» سنة ٣٢٨م، ليستمر فى دوره الذى غيّر مجرى التاريخ، فلولا «البابا أَثَناسيوس» لصار العالم كله آريوسيًّا!!.
ويُعد «البابا أَثَناسيوس» هو كاتب قانون الإيمان الذى أقره «مجمع نيقية» وتُقرّه حاليًّا كنائس العالم أجمع. وقد اعترفت الكنيسة الكاثوليكية بـ«البابا أَثَناسيوس» قديسًا فى روما وعالمًا من علمائها الـ33، ويُعتبر أحد الآباء الأربعة الأعاظم فى الكنائس الشرقية، وجوهرة آباء الكنيسة القبطية الأرثوذكسية ومعلميها الإيمانيّين.
وقد خلَّف كتبًا ومقالات دفاعية عن الإيمان تُعد مصادر مهمة بين الكتابات الآبائية فى العالم. وفى عام ٣٢٩م أسس الكنيسة فى أثيوبيا حيث قام برسامة أول أسقف لها، وكان يدعى «فرومنتيوس» المعروف باسم «أنبا سلامة».
إنه بحق قيل فيه: (إن «أَثَناسيوس» فى الكنيسة (هو) الصخرة التى لم تقوَ أبواب الجحيم عليها). وقد خلعت الكنيسة على «البابا أَثَناسيوس» لقب «الرسولى» تقديرًا لمكانته فى الكنيسة المِصرية ولدفاعه عن العقيدة المَسيحية من كل فكر غريب، مشابهًا الآباء رسل السيد المسيح.
ولا تنسى أرض «مِصر» أنها قد تباركت فى العاشر من مايو سنة ١٩٧٣م، حين تسلم «البابا شنودة الثالث» من «روما» جزءًا من رُفات هذا القديس ليعود إلى رعيته وأبنائه.. و.. والحديث فى «مِصر الحلوة» لا ينتهى!.
* الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى