“لا تخافوا، هذا الجسد كقميص رثّ، لا يدوم، حين أخلعه، سأهرب خلسة من بين الورد المسجّى في الصندوق، وأترك الجنازة “وخراريف العزاء” عن الطبخ وأوجاع المفاصل والزكام، مراقبة الأخريات الداخلات والروائح المحتقنة، وسأجري كغزالة إلى بيتي”، آخر ما سطرته ريم البنا في حياتها، لتجري كغزالة إلى بيتها، شعرت بنهايتها بعدما غزا المرض جسمها فطمس جمالها، وأرهق روحها التي طالما حاربت بها المرض، وفي مثل هذا اليوم من العام الماضي، صعدت روح ريم البنا، صوت فلسطين الحر المناضل.
حينما رحلت الغزالة
“أحرِقوا جسدي بعد مماتي.. وعبئوا رفاتي في زجاجة عَرَق نصراوى.. واحشوها بالبنزين والمواد المشتعلة . لتتحوّل إلى “مولوتوف” في يد مُقاوم يرجم بها أعداء الحب وطُغاة الأرض”، حياة قصيرة عشاتها ريم البنا، الحرة ابنة فلسطين المحتلة، سلاحها أغانيها، صوتها درعها الحامي، تقف صامدة تبث روح المقاومة، استمد منها الكثيرون القوة في لحظات ضعفهم، صدى صوتها تخطى حدود بلدتها الصغيرة، ووصل إلى أرجاء الوطن العربي فأحبها الجمهور العربي واعتبروها رمز النضال والكفاح الفلسطيني.
ولدت ريم بنا في مدينة الناصرة الفلسطينية، عام 1966، نشأت من اسرة فنية، فوالدتها زهير الصباغ الأديبة والشاعرة الفلسطينية التي قادت حركات نسوية، أحبت الموسيقى، وألفت أذناها الأغاني، مارسته كهواية فبرعت فيه، واعتادت الوقوف على مسرح المدرسة لتنهال عليها عبارات الثناء والإعجاب بصوتها الناعم الطربي.
قررت ريم بنا أن تسلك طريق الغناء، وكرست حياتها للموسيقى، فالتحقت بالمعهد العالي للموسيقى في موسكو، وفي عام 1985، أطلقت بنا ألبومها الغنائي الأول باسم “جفرا” مستوحى من اسم أغنية التراث الفلسطيني جفرا.
سميت “صوت فلسطين الحر”، درست الموسيقى في موسكو، ولكنها ظلت محتفظة بجذورها وأصولها، لم تترك عباءتها الفلسطينية التراثية التي طالما ظهرت بها، حتى تميزت بها وعملت على نشر فن التطريز، عكفت على إعادة إحياء أغاني التراث الفلسطينية وغنائها بنسخ جديدة، فأحيت ما طواه الزمان، وأزاحت الغبار عن أغانٍ شعبية فلسطينية كادت تُنسى ونشرتها في كل مكان، وغنت لكبار الشعراء الفلسطينيين والعرب، مثل محمود درويش وتوفيق زياد.
لمعت ريم بنا، وأصدرت العديد من الألبومات الغنائية، منها للأطفال، وآخر للأغاني الوطنية، فأصدرت البوم “وحدها تبقى القدس”، فغنت ووصل صداها أوروبا فشاركت في ألبوم “تهويدات من محور الشر Lullabies from the Axis of Evil” إلى جانب المغنية كاري بريمنس Kari Bremnes، وسافرت ريم إلى النرويج لتقديم حفلة فنية مشتركة معها، وتضمنت فكرة الألبوم وجود مغنيات من بلدان محور الشر- مصطلح أطلقته إدارة الرئيس بوش على عدد من البلدان المناهضة للسياسات الأمريكية- تغنين تهويدات من ثقافة بلادهن، وكان الألبوم أشبه برسالة موسيقية رافضة للحرب، ومعارضة لسياسات الرئيس الأمريكي جورج بوش.
“منقاوم، لأنو الحياة بدها مقاومة، والحب أكبر مقاومة، والصمود أقوى مقاومة، والابتسامة هي مقاومة”، جميلة بصوتها العذب، اتخذت من المقاومة شعارا لها، فأصبح هو سبيلها للحياة، قاومت الاستعمار في وطنها، وفي جسدها، الذي استعمره المرض الخبيث، فأصيبت بسرطان الثدي عام 2009، إلا أنها تغلبت عليه، وواصلت مسيرتها الفنية، وصوتها الحر الذي قالت عنه” صوتي.. لن تكتم صوتي، إنه الآن وتر وحيد يقاوم، كحبل غسيل لا تطاله الريح”.
ولكن يبدو أن الريح طالته في نهاية مشوار ريم البنا، فأصيبت بشلل في الوتر الصوتي الأيسر، مما اضطرها إلى التوقف عن الغناء، وأصيبت بالسرطان مرة أخرى، وفي مارس الماضي، نشرت والدتها منشورا على “فيس بوك” قائلة: “رحلت غزالتي البيضاء، خلعت عنها ثوب السقام، ورحلت، لكنها تركت لنا ابتسامتها، تضيء وجهها الجميل، تبدد حلكة الفراق”.
ريم بنا، جميلة رحلت بعد حياة قصيرة زخرت بمشوار طويل في الغناء والمقاومة الحرة، وفي عام 1997، اختارت وزارة المرأة في تونس ريم بنا “شخصية العام”، كما حازت ريم بنا جائزة فلسطين للغناء عام 2000، وحازت جائزة ابن رشد للتفكير الحر لعام 2013.