نشر المركزالثقافى القبطى الارثوذكسى مقال للانبا ارميا الاسقف العام ورئيس المركز عن الطاعون الدبلى قال فيها
بدأ الحديث عن وباء «الطاعون الدُّبْلىّ» الذى اجتاح العالم فى عدد من العصور منذ آلاف السنين، ثم عاود ظهوره فى القرنين السادس والسابع الميلاديين، ليقتُل 25 مليونًا و25 ألف نسمة. أما القرن الرابع عشَر، فقد اجتاح الوباء قارة «أوروبا» 1347-1352م ليقضى على ثلث سكانها!!.
وفى كتاب «الموت الأسود»، تحدث الطبيب الألمانىّ «يوستوس هيكر» عن تقرير الطبيب الجراح «Guy de Chauliac» الذى تحدى خطر الطاعون، مقدمًا مساعداته المتواصلة للمصابين بجُرأة، مستخفًا بأعذار أن العدوى تبرر الهرب، حيث ذكر أنه: «رأى الطاعون مرتين فى أفينيون (بلدة بإقليم فوكلوز جنوب شرق فرنسا) أولاً عام 1348م… وبعد ذٰلك باثنَى عشر عامًا بالخريف، عندما عاد من ألمانيا، وعلى مدى تسعة أشهر، انتشر فيها شعور بالضيق العام والرعب. فى المرة الأولى، انتشر الطاعون رئيسيًّا بين الفقراء، ولٰكن عام 1360م كان بالأكثر بين الطبقات العليا؛ كذٰلك دمر الآن عديدًا من الأطفال الذين كانوا قد نجَوا منه سابقًا…».
وأماكن عديدة بـ«فرنسا»، لم يبقَ على قيد الحياة إلا اثنان من كل عشرين على الأكثر!!، واجتاحت العاصمة الفرنسية عاصفة الطاعون، كل مكان، قصر وكوخ على السواء: «ملكتان، وأسقف، وعدد كبير من الأشخاص البارزين الآخرين، سقطوا ضحية له (للطاعون)، وأكثر من 500 شخص كانوا يموتون فى (فندق ديو) فى اليوم الواحد!!، وكان يقوم بالرعاية راهبات الجمعيات الخيرية اللاتى تحلَّين بشجاعة غير مباليات بالأخطار؛ ففى أوقات الهلع والرعب هذا، يُكشف النقاب عن أجمل صفات الفضيلة الإنسانية»؛ فعلى الرغم أن الطاعون سبّب موت راهبات كثيرات، فإن خِدماتهن للمرضى لم تهدأ قط. وهٰكذا كل زمان ومكان، نجد دائمًا بأوقات المحن والخطر أيادى ممتدةً بالخير والمعونة للآخرين، غير عابئة بما يمَسها من سوء، بل تمارس عظمة الإنسانية تجاه البشر جميعًا.
ويصف «هيكر» أعدادًا هائلة ماتت يوميًّا بـ«أوروبا»: «على الفور، حُظر دفن جثث الموتى (المصابة بالطاعون) داخل الكنائس أو بساحاتها. وكانت آلاف من الموتى توضع فى طبقات، بسِتّ حفر كبيرة خارج المدينة، مثلما حدث بالفعل بـ(القاهرة) و(باريس)، ومع ذلك كان لايزال عديد ممن يُدفنون سرًّا!!، ففى جميع الأزمنة، لايزال الناس مرتبطين بدفن موتاهم فى المقابر، غير متخلين عن عاداتهم فى دفن موتاهم».
أما «مِصر» فلم تكُن أفضل حالاً إذ اجتاحها «الموت الأسود»، فذكر أ. د. «سيف النصر أبوستيت»: «مركز (مِصر) الجغرافىّ، الذى يتوسط القارات الثلاث، جعلها ترتبط ارتباطا وثيقًا بتاريخ الأمراض، فهى القنطرة العالمية الكبرى التى يعبرها من قديم الزمان المسافرون والتجار من كافة أنحاء العالم». وقد تكرر ظهور وباء الطاعون كأعوام: 1347م، 1609م، 1801م، 1812م، 1834-1836م، 1855-1950؛ وهاجم «مِصر» بقدوم السفن التجارية الحاملة معها فئرانًا مصابة.
ووصف «هيكر» الطاعون بـ«مِصر»: «وقد شوهد مثل هذا بـ(مِصر): هناك أيضًا كان التهاب الرئتين منتشرًا، وكانتا تتدمران بسرعة، مع ارتفاع شديد فى الحرارة، ونفْث (بصق) الدم. هنا أيضا أنفاس المرضى أصبحت عدوى مميتة، وكانت المساعدة البشرية من دون فائدة!، كما كانت مدمرة لأولٰئك الذين اقتربوا من المصابين!!». ويذكر «ابن تَغرى» عن تلك الحقبة: «وفى (شعبان)، تزايد الوباء بديار (مِصر)… واشتد الوباء حتى عجز الناس عن حصر الموتى… وحدث فى الناس، فى (شوال)، نَفْث الدم: فكان الإنسان يحس فى نفسه بحرارة، ويجد غثيانًا، فيبصُق دمًا ويموت عقيبه (من أعقبه بعدوى منه)، ويتبعه أهل داره واحدًا بعد واحد، حتى يفنَوا جميعًا بعد ليلة أو ليلتين؛ فلم يبقَ أحد إلا وغلب على ظنه أنه يموت بهذا الداء. واستعد الناس جميعًا وأكثروا من الصدقات، وتحاللوا (تحللوا من مسؤولياتهم وتباعدوا)، وأقبلوا على العبادة، ولم يحتَج أحد فى هذا الوباء إلى أشربة ولا أدوية ولا أطباء لسرعة الموت!!، فما انتصف (شوال)، إلا والطرقات والأسواق قد امتلأت بالأموات… ثم شمِل فى آخر السنة الوباء بلاد الصعيد بأسرها، ولم يدخل الوباء أرض (أسوان)، ولم يمُت بها سوى أحد عشَر إنسانًا».
و… وفى «مِصر الحلوة» الحديث لا ينتهى!.