نعود اليوم لمواصلة السلسلة التاريخية “مصر الحلوة”: التي بدأت منذ عدة سنوات بالحديث عن “مِصر الفرعونية” وما مر بها من أحداث، ثم ما شهِدته “مِصر” في حكم الأباطرة والوُلاة، إلى جانب ما واجه شعبها من محن وأزمات واضطرابات على مر العصور.
وتوقفنا عند حقبة حكم “المستنصر بالله” (٤٢٧-٤٨٧ه) (١٠٣٦-١٠٩٤م)، الذي خطب على منابر “العراق” بعد استيلاء “البَساسِيريّ”، وخلع الخليفة العباسيّ “القائم بأمر الله”. وفي عصر “المستنصر”، شهِدت “مِصر” حِقبة من أصعب الحِقَب التي مرت عليها؛ إذ تعرضت لشدة عظيمة، أُطلق عليها “الشدة المستنصرية”، أرجع بعض المؤرخين أسبابها إلى الفتنة التي دبت بين الأتراك والعبيد بـ”مِصر”؛ حتى إن “المقريزي” يصفها: “الفتنة العظيمة التي خَرِب بسببها إقليم «مِصر» كله”!! إلى جانب قلة مياه “النيل”. وكان “المستنصر” قد أولى شخصا يُدعى “أبا مُحمد الحسن اليازوريّ” شُؤون الوَزارة، هٰذا قدِم من “فِلَسطين” إلى “مِصر”، وعمِل بها في عدد من الوظائف حتى صار “قاضي القضاة”، ثم تعظم جدًّا حتى أُسندتِ إليه مهام الوَزارة. وازدادت عظمة “اليازوريّ”، حتى جاء عام ٤٥٠ه (١٠٥٨م) إذ أمر “المستنصر” بالقبض عليه ونفيه إلى “تِنِّيس”، ثم قتله.
وقد تعددت آراء المؤرخين في أسباب قتل “اليازوريّ”. ويذكر المؤرخون الكنسيُّون أن زمان وَزارة “اليازوريّ” كان بالغ الصعوبة على أقباط “مِصر”؛ إذ أمر بإغلاق جميع الكنائس في القطر المِصريّ!! فثارت ثائرة المَسيحيِّين، وشاركهم مشاعرهم إخوتهم المسلمون العقلاء، وخاصة بعد اندلاع فتن شديدة قرب “الأشمونين” أودت بحياة رهبان “دير الشهيد أبانوب”.
ومع تزايد الأمور تعقيدًا في أرض “مِصر”، أرسل “المستنصر” إلى “بدر الجماليّ” الذي يذكر بشأنه المؤرخ “ابن التَّغْريّ”: “وأخذ «بدر الجماليّ» في إصلاح أمور الديار المِصرية: فانتزع الشرقية من أيدي عرب «لَواته»، وقتل منهم مقتلة عظيمة، وأسر أمراءهم، وأخذ منهم أموالاً جمة، وعمّر الريف فرخصت الأسعار ورجعت إلى عادتها القديمة.”؛ واهتم كذٰلك بـ”الإسكندرية” وبنى بها “جامع العطارين”. ويذكر المؤرخون أن “الأوحد” ابن “بدر الجماليّ” شق عصا الطاعة على أبيه، وتحصن بمدينة “الإسكندرية”؛ فسار إليه أبوه “بدر الجماليّ” وحاصر “الإسكندرية”؛ فطلب أهلها الأمان وفتحوا له أبوابها فدخل وأسر ابنه. كذٰلك اهتم “بدر الجماليّ” بالصعيد وأخمد الفتن. وقد مات “بدر الجماليّ” في أيام “المستنصر”، وتولى الأمور من بعده ابنه “الأفضل شاهَنشاه”. استمر “المستنصر” في الخلافة دون دَور يُذكر في أمور الحكم، مع كل من “بدر الجماليّ” ومن بعده ابنه “الأفضل”، إلى أن تُوفي عام ٤٨٧ه (١٠٩٤م)، ليخلفه ابنه “أحمد” ولُقب بـ”المستعلي بالله”، الذي تولى في أيامه تدبير أمور الحكم “الأفضل شاهَنشاه”. وفي أيام “المستنصر” وقعت زلزلة عظيمة في مدينة “تَبريز” أشهر مدن “أذِربَيچان”، تسببت في قتل آلاف من البشر قيل إنهم قرابة 40 ألفًا أو 50 ألفًا، كما وقعت زلازل في كل من “تَدمُر” و”بَعْلَبَكّ” ببلاد الشام.
وأما عن عَلاقة الخليفة “المستنصر” بالأقباط فكانت متأرجحة؛ فقد ثبتهم في وظائفهم الحكومية، ثم عزلهم، وما لبث أن أعادهم مرة ثانية! ويُذكر أنه طلب منهم أن ينظموا الدواوين ويحصلوا الأموال. وما لبث بعد زمن وجيز أن اضطهدهم، وأصدر أوامره بأن يرتدوا الزُّنّار الأسود، وفرض عليهم الضرائب. ومما ذُكر في أيامه أيضًا، أن شخصًا مَسيحيًّا يسمى “أبا سهل” تُوفي، فأُخرجت جنازته في أثناء النهار، فيذكر “ابن التغريّ”: “فثارت العامة بالنصارى، وجردوا الميْت وأحرقوه، ومضَوا إلى الدير فنهبوه.”. عاصر “المستنصر” أربعة آباء بطاركة: البابا شنوده الثاني (١٠٣٢-١٠٤٧م) (الـ٦٥)؛ والبابا خرستوذولوس (١٠٤٧-١٠٧٧م) (الـ٦٦)؛ والبابا كيرلس الثاني ( ١٠٧٨-١٠٩٢م) (الـ٦٧)، والبابا ميخائيل الثاني (١٠٩٢-١١٠٢م) (الـ٦٨) و… والحديث في “مِصر الحلوة” لا ينتهي!