جرى الحديث بمقالة سابقة عن سيرة “البابا خرستوذولوس”، الـ٦٦ في بطاركة الإسكندرية، وأمْر “شجرة الزيتون” العجيبة ببلاد “الأندلس”، ووصول “الأجلّ الأفضل” أمير الجيوش إلى “مِصر”، الذي أعاد أحوالها للاستقرار بعد ما ألمّ بأهلها من أهوال وضيقات وشدائد. لٰكن المكائد تجاه ذٰلك الأب البطريرك لم تهدأ. فقد وشى به رجل يُدعى “عليّ القفطيّ”، مدعيًا أن “أنبا بقطر”، مِطران بلاد النوبة من قِبل “البابا خرستوذولوس”، هدم أحد المساجد هناك. فأمر أمير الجيوش بالقبض على البابا حتى يبحث الأمر، وأرسل أحد رجاله فكشف كَذِب الوشاية. فأحضر أمير الجيوش “البابا خرستوذولوس” إلى مجلسه، وأكرمه، وأحضر “القفطيّ” وواجهه بما ذكره من اتهامات، فأقر واعترف بكذبه. ويذكر المؤرخون أن أمير الجيوش أحضر القضاة والشهود والفقهاء، وسألهم عما يجب أن يفعل بذٰلك الرجل الكذوب، فأفتَوا بقتله؛ حينئذ سأل أمير الجيوش البابا عن حكمه، فقال: “ما عندنا في مذهبنا قتل، ولا مجازاة عن الشر بشر. وأنت السلطان، والأمر لله ولك.”. أمر أمير الجيوش بقتل “القفطيّ”. وعظُم قدر الأب البطريرك في عيون أمير الجيوش وكبار رجال الحكم بالبلاد؛ لما كان فيه من حكمة. ولا يُنسى “للبابا خرستوذولوس” أنه كان شديد الاهتمام بأمر القوانين الكنسية (كما ذُكر بمقالة “مصر الحلوة 400″). تنيح “البابا خرستوذولوس” في الرابع عشَر من كيهك (١٠٧٧/١٢/١٠م)، في السنة الحادية والأربعين من خلافة “المستنصر بالله”. وقد اختلف المؤرخون في سنة نياحة البابا: فبعضٌ يذكر أنها ١٠٧٦م، وآخرون يرجحونها ١٠٧٥م. ودُفن “البابا خرستوذولوس” أولاً بـ”كنيسة السيدة العذراء بمصر القديمة” (“المعلَّقة”)، ثم نُقل إلى دير “القديس مقاريوس” بوادي النطرون. “البابا كيرِلُّس الثاني” ( ١٠٧٨-١٠٩٢م) السابع والستون في بطاركة الإسكندرية. فبعد نياحة “البابا خرستوذولوس”، اجتمع عدد من أساقفة “مصر” وقساوستها، وبعض كهنة الإسكندرية، وبعض الأراخنة (كبار رجال الشعب)، بـ”دير أبو مقار”؛ لاختيار أب بطريرك يخلُف البابا الراحل، لكن انقضى شهران في مناقشات ومباحثات دون وصول إلى اتفاق. فذهبوا إلى “دير أنبا كاما” ليأخذوا “أنبا بسوس” لسيامته بطريركًا فرفض، وأخذ حجارة يدق بها صدره!! وأعلمهم بأن البطريرك المختار سيكون من “دير أبو مقار”، قائلاً: “أنا ابن مملوك. تجعلوني بطركًا! لا تطلبوني أنا، ولا مقارة الامنوت (“اِمنوت” كلمة قبطية من معانيها بواب أو قائم؛ وقد يقصد القائم بشؤون بوابة الدير) الذي قد قد هرب منكم واختفى. ولا تتعبوا؛ فإن بطركهم هوذا هو عندهم في [الِاسكنا] (أو الِاسكيني بالقبطية أي “المسكن”) بـ«دير أبو مقار».”. فعادوا من “دير أنبا كاما” بعد حديثهم مع “أنبا بسوس”، ورفعوا الصلوات والتضرعات إلى الله كي يرشدهم إلى من اختاره لهٰذه الخدمة، حتى وقع اختيارهم على الراهب القَس “جرجه” من “دير أبو مقار”؛ فأخذوه رغمًا عنه، وهو يبكي محاولاً الفِرار من هٰذه المسؤولية الجسيمة، لٰكنهم لم يتركوه. ثم اصطحبوه إلى “الإسكندرية” حيث سِيم بطريركًا سنة ١٠٧٨م، في عهد خلافة “المستنصر”. وقد ذكر بعض المؤرخين أن “البابا خرستوذولوس” حدَّث قَسًّا من “الإسكندرية” عن راهب فاضل يسمى “جرجه”: أنه هو الجالس من بعده على كرسيّ البطريركية. كذٰلك ذكر كاتب سيرة “البابا خرستوذولوس”، أن البابا خلال حضور القَس “جرجه” لديه ذات يوم، رسمه بالزيت المقدس على جبينه، وقال له: “أيْتِهْسْك (بالقبطية aitehck ) التي تفسيرها: دَهَنْتُكَ.”. وكان بعد سيامة “البابا كيرِلُّس الثاني”، أنه ذهب ومن معه إلى “مِصر”، حيث أعد له الأراخنة قاربًا ينقُله في موكب سلطانيّ، من “كنيسة الملاك ميخائيل بالروضة” إلى “مِصر”، حيث استقبله حشد كبير من الأقباط استقبالًا كبيرًا، وأخذوا بركته، ثم … والحديث في “مصر الحلوة” لا ينتهي!