كانت عقارب الساعة في طريقها إلى الحادية عشرة ليلًا، حينما اخترق ثلاث نساء معصوبات الرأس، سكون الليل بشارع الحسيني بخطى مسرعة، إلى المستشفى الأميري بالمنيا، التي يمكث فيها جثمان أسعد فاروق، و6 آخرين، راحوا ضحية الحادث الإرهابي، الذي وقع عصر أمس، الجمعة، في طريق دير الأنبا صموئيل بالمنيا.
كان مسلحون أطلقوا النار، صباح الجمعة الثاني من نوفمبر الجاري، على حافلات تقل أقباطًا، في الطريق المؤدي إلى دير الأنبا صموئيل المعترف أقصى شمال غرب محافظة المنيا، مما أسفر عن وفاة 7 أشخاص وإصابة العشرات، بحسب بيانات رسمية، فيما أعلن تنظيم الدول الإسلامية (داعش) قبل ساعات مسؤوليته عن الحادث.
بعد أن دخلوا المستشفى التي تحتضن الجثامين، انضم النساء الثلاث إلى حشود غفيرة، يقف أغلبها في صمت مطبق، ينتظرون بعيون تترقب بأسى خروج الفقيد الشاب، الذي لم يكن بلغ الخامسة والثلاثين من عمره بعد، كي يرافقوه إلى مستقره الأخير.
بدأ النحيب يعلو رويدًا رويدًا، والحراك يزداد، وسط التواجد الأمني المكثف، حينما اقترب النعش من الطابق الأرضي بالمستشفى، تكدست الجموع في ممر جانبي ضيق، وانفتحت أبواب إحدى سيارات الإسعاف، واستقر داخلها صندوق جثمان الفقيد.
تعالت أصوات الأقربين، الجميع يتسابقون على الركوب إلى جوار “أسعد”، ومن لم يستطع كان يقفز داخل إحدى الحافلات البيضاء، التي تطوعت لنقل الجموع، ليتبعه.
بعد دقائق، وصل الجثمان إلى الكنيسة الإنجيلية الثانية بالمنيا، كان أسعد، الشهيد الإنجيلي الوحيد بالحادث، محمولًا على الأعناق، حملته الجموع إلى القاعة الرئيسية بالكنيسة، واستقر نعشه في المقدمة. وامتلأت الصفوف من خلفه بوجوه يكسوها الوجوم.
أمامه، اصطف كبار القساوسة، من بينهم رئيس الطائفة الإنجيلية في مصر، يتقدمون التعازي لأهالي الفقيد ولأنفسهم، ويقرأون عليه ترانيم الصبر، يتوجه أحدهم بالقول إلى الحضور: “قد نسأل الآن.. لماذا يارب، لماذا تسمح بهذا الألم، علامة استفهام بلا نهاية، واليوم، مصر كلها تتألم، ونحن نودع ابننا إلى مثواه الأخير، وأنا أرى أمامي غالبية الحضور من إخوتي المسلمين، يودعون أحد الشباب في ربيع العمر”.
اضطر القس أن يصمت قليلا وهو يتحدث عن “الإرهاب” الذي لا يفرق بين أحد، حينما اخترق رجل عجوز يرتدي جلبابًا وعمامة صعيدية صمت الحضور، بصوت مبحوح يملأه القهر، وعبارات مترجيه، وكأنه يوجهها إلى الله “إتصرف معاهم.. إتصرف معاهم”، كان هذا والده، الذي جاور الزوجة، وهي تحتضن النعش دون أن تلتفت للحظة واحدة.
بعد أن انتهت صلاة الجنازة، تزاحم الجمع الموجود بالقاعة على حمل النعش، وسط بكاء من رجال وصراخ من نساء، خرجوا به من بوابة الكنيسة الإنجيلية، إلى عربة الإسعاف، التي وقف على بابها أقارب المتوفى يتقدمهم والده، ينادي عليه، كأنه ينتظر إجابة، ولكنه لا يجيب، ليحمل إلى دير القديس أباهور البهجوري الموجود بقرية سوادة شرق النيل، مثواه الأخير.
أمام الدير الذي كتب للمتوفى الدفن بأرضه، خرج النعش من عربة الإسعاف، جرى المعزون به في طريق مظلم، ممشى يتجه إلى أعلى، منه أتربة تتصاعد فوق الأقدام، تخنق الهواء، الذي تتنفسه وجوه حزينة، له عيون دامعة، وأصوات مبحوحة من الصراخ، فيما تنطق كلامًا بين حينًا وآخر، مقتطعًا، لكن مفهومًا.
تهرول سيدة في ذهول: “ولادك صغيرين هتسيبهم لمين”، أمامها عجوز يحكي لجاره عن طيبته، قبل أن يترحم على عمره الذي قطف في ربيعه: “خلاص مش هنشوفه تاني”، لكن أمام حجرة الدفن، كان الأب يبكي، يطلب أن يرى وجهه، ويسأل عن سبب موته، كأن عقله لا يصدق المصيبة، فيما تتمسك والدته بالأرض، افترشتها، لا تريد أن تغادر سنتيمترًا واحدًا، لكن أقرانها يحملونها، يشدوا يديها، إلى الممر الضيق، المظلم؛ ليخفت صوتها عن حجرة الدفن رويدًا، التي استقر الصندوق بها، دقائق تفصله عن ترك عالم الأحياء، الذي بات العيش فيه عسيرًا على عم المغدور به، بعين ذابلة وصوت مفزوع ظل الرجل العجوز يردد: “بيتنا أتخرب يا أسعد”.