حدثتنا المقالة السابقة بمرحلة حكم ثالث السلاطين الأيوبيِّين «ناصر الدين مُحمد»، ابن «العزيز عثمان»، الذى كان ابن العاشرة ولذا استُدعى عمه «الأفضل» لتدبير أمور البلاد، وما كان من وقائع متعددة متلاحقة كهزيمة «الأفضل» من «العادل» الذى صار سلطانًا على «مِصر» سنة 596هـ (1200م) بعد خلع ابن أخيه «ناصر الدين محمد»، واستوزر رجلاً أطلق عليه اسم «القاضى صفى الدين»، ثم ما ألمّ بالمِصريِّين آنذاك من انخفاض مياه النيل وجفاف الأراضى وانتشار الغلاء.
ويحدثنا «أنبا ساويرس ابن المقفع» عن عادة خلفاء «مِصر» فى صرف الصدقات والأموال للمحتاجين والمعوزين، لكن الوزير «صفى الدين» أشار بقطعها فانقطعت عنهم، كما يخبرنا أن حال البلاد قد صار رديًّا فيقول: «فمنع الله (النيل) فى تلك السنة أن يصعد على أرض «مِصر» فشرِقت (جفت) جميعها من برج «أسوان» إلى «دمياط».. فشرِقت البلاد وخرِبت وهلكت الرعية وتفرقت، وتشتتت الخلائق (المخلوقات) وتمزقت (تفرقت)، ومضى خلق كثير من ديار «مِصر» إلى «الشام» بأموالهم وأولادهم فهلكوا…»، إثر تعرضهم للبرد والجوع والقتل من العربان، وهكذا ضُربت البلاد بالغلاء والجلاء والوباء، وتردت أحوال الشعب فباعوا ما لديهم من مقتنيات وعبيد بأثمان زهيدة، بل إن كثيرًا منهم باعوا بنيهم وبناتهم للخدمة، مبررين فعلتهم بأنه من الأفضل لأبنائهم أن يباعوا لمن يمكنه أن يطعمهم الخبز ويحيَوا عن أن يموتوا جوعًا، حتى إن الابن كان يخطف الطعام من يد أبيه ليحيا.
والأب من يد ابنه!! ويستكمل قائلاً: «وجملة الأمر أنهم أكلوا بعضهم بعضًا، وكان القوى يقوى على الضعيف فيأكله، ولم يبقَ أحد يوارى أحدًا التراب، وهان الموت حتى صاروا مطروحين فى الشوارع والأزقة والطرقات… ولا أحد يبكى على أحد.. وكانوا كبار الناس بـ«مِصر» و«القاهرة» من الأجناد والكتاب وأهل الخير من المسلمين والنصارى يصدّقوا (يتصدقون) على الفقراء، ويعمل كل أحد على قدر طاقته». وفى تلك الأيام، ترك كل إنسان فى القرى عمله وصنعته وزحف نحو المدن من أجل البحث عن الطعام، فتوقفت الصناعات والإنتاج البشرى. وظلت الأحوال هكذا 597 و598هـ، إلى أن أتت سنة 599هـ (1202م) فنظر الله إلى خليقته ورحِم البشر، وأخذت الأمور تعود إلى سابق عهدها: بدأ الغلاء فى التراجع وقلت الأسعار، وبدأ الناس يعودون إلى أعمالهم وحرفهم وصناعاتهم، ليعيدوا تعمير البلاد بعد ما أصابها من ضيق وضنك، وعاد الأمن إلى الطرق، وتمكن الناس من السفر فى البر والبحر مرة أخرى.
«الملك العادل» (596-614هـ) (1200-1218م)
هو السلطان الملك «العادل سيف الدين أبوبكر مُحمد» أخو السلطان «صلاح الدين يوسف بن أيوب»، وهو أصغر من أخيه «صلاح الدين» بعامين، ويذكر «شمس الدين الذهبى»: «وكان صلاح الدين يعول عليه كثيرًا، واستنابه (أنابه عنه) بمِصر مدة، ثم أعطاه حلب، ثم أخذها منه وأعطاها لولده الظاهر، وأعطاه الكَرَك عوضها، ثم حَرّان، ففى حال غياب صلاح الدين عن مِصر، كان العادل يقوم مقامه فى حكم مِصر. وقد استقل العادل بحكم مِصر أخيرًا بعد كثير من الأحداث والوقائع بينه وبين الأفضل والعزيز (ذُكرت فى مقالات سابقة). وامتد سلطان العادل إلى حكم مِصر، والشام، والحجاز، اليمن، وديار بكر، وأرمينيا، وعندما استقرت له الأمور فى حكم تلك البلاد، قسّمها بين أبنائه فكانت مِصر من نصيب الملك الكامل مُحمد. وكان يتردد بين البلدان فيقضّى الصيف ببلاد الشام، والشتاء بالديار المِصرية. وقد ذكر المؤرخون عن السلطان العادل أنه كان عظيمًا ذا رأى ومعرفة تامة، له حنكة سياسية، إلى جانب حُسن السيرة ورجاحة العقل والحزم، لكن بعضهم أشاروا إلى تعرضه لمحاولات اغتيال كُشفت ونجا منها. و… والحديث فى «مِصر الحلوة» لا ينتهى!.