نتنسم في كل سابع عشر من مارس ذكرى رحيل “البابا شنوده الثالث”، السابع عشر بعد المئة في باباوات الإسكندرية. وفي إطلالة خاطفة على حياته، يسترعي أنظارنا مدى تفردها، وما تركته من آثار وعلامات لا تمحى من ذاكرة الشعب المصري ووجدانه، مسلميه قبل مَسحييه؛ فهو البابا الذي عرَفه المصريون أبًا للجميع فأطلقوا عليه “بابا العرب”.
زخرت حياة “البابا شنوده الثالث” بعديد من الأحداث صنعت منه إنسانًا متميزًا يحوي في أعماقه كثيرًا من السمات التي قلما تجتمع في شخص واحد: المحبة الغامرة، الأبوة الحانية وفي الوقت نفسه الحزم وصلابة الشخصية، فيض مشاعر الشاعر الرقيق، رجاحة الفكر وقوة المنطق، القدرة على إسعاد من حوله، خدمته لكل أحد مع عشقه لحياة الوحدة والانفراد بالحديث إلى الله. لقد حاولت الحياة أن تسلبه سعادته بوفاة والدته وتُحمله المسؤولية وهو طفل صغير، فمنحها هو السعادة والابتسامة والعطاء، في رحلة حياة طبعت آثارها في حياة كل من التقاه. وكان أهم ما يميز حياته هو محبته الشديدة للفكر والثقافة.
بدأت رحلة الثقافة في حياة “البابا شنوده الثالث” في وقت مبكر جدًّا، فقد كان مولَعًا في طفولته بالقراءة، حتى إنه أخذ يقرض الكتب بنهم شديد، ككتاب “قادة الفكر” لعميد الأدب العربي “طه حسين”، وقصة “سارة” للأديب “عباس محمود العقاد”. لم تتوقف قراءاته عند فرع واحد من العلم، بل قرأ عديدًا من كتب الطب والاجتماع والأدب والقصص لشتى الأدباء والمفكرين. أما ما استهواه جدًّا، فقد كان قراءة الشعر وحفظ كثير منه، ثم بدأ يقرض الشعر وهو ما يزال فتى، وتعلم قواعد الشعر ونظمه وهو لم يكُن قد تجاوز السادسة عشرة. وقد أهَّلته تلك المعرفة الواسعة لتولي رئاسة تحرير مجلة مدارس الأحد في أكتوبر 1949م حتى رهبنته باسم الراهب “أنطونيوس السرياني” في يوليو 1954م. ورافقه حب الكتب إلى داخل الدير حتى إنه صارأمينًا لمكتبة دير السريان (وهي من أهم مكتبات الأديرة)، فاعتنى بها وبـذل جهـدًا كبيرًا في فهرستها وتقسيمها وتبويبها، ودفعه شغفه إلى دراسة كثير من كتبها ومخطوطاتها وإعداد بعضها للطبع والنشر. وقد استحق أن يُرسم أسقفًا عامًّا للتعليم الكنسي والكلية الاكليريكية والمعاهد الدينية باسم “أنبا شنوده” سنة 1962م، بيد القديس “البابا كيرلس السادس” ليصبح أول أسقف لهذه المسؤولية الكبيرة.
اهتم “أنبا شنوده” بعد سيامته أسقفًا للتعليم بنقل التعليم والثقافة إلى الشعب، متتبعًا تحذير الكتاب المقدس: “هلك شعبي من عدم المعرفة”؛ فأسس اجتماعات روحية للوعظ والتعليم بمنطقة دير أنبا رويس بالعباسية، وكانت محاضراته يومين أسبوعيًّا، ثم أضحت يومًا واحدًا هو الأربعاء. وكان اجتماع الأربعاء يزدحم بآلاف من كل فئات الشعب، وأخذ ينمو حتى أمسى من أشهر الاجتماعات الدينية بمنطقة الشرق الأوسط. ومن منطلق إحساسه بمسؤولية التعليم، أصدر مجلة “الكرازة” في يناير 1965م، وظل يرأس تحريرها مدة 47 عامًا.
ولا تنسى ذاكرة الوطن تلك المحاضرات التاريخية الوطنية التي ألقاها “البابا شنوده الثالث” في عديد من المناسبات، ومنها محاضرتان بنقابة الصحفيين: الأولى سنة 1966م بعنوان “إسرائيل في رأي المسيحية”، والثانية سنة 1971م وموضوعها “المسيحية وإسرائيل”، كما ألقى محاضرة بعنوان “القدس مدينة السلام” بجامعة الدول العربية سنة 1995م، وفنَّد مفاهيم الصهيونية ومزاعمها في محاضرة بأكاديمية ناصر العسكرية العليا سنة 2002م. وقد شارك “البابا شنوده الثالث” في عديد من المؤتمرات والندوات لمناقشة عدد من القضايا، منها: دعوة الأديان إلى محو الأمية، نقل الأعضاءوزراعتها، التعايش بين الأديان، الأديان ودورها في الحفاظ على البيئة، الصحة الإنجابية، موت الرحمة، مصر الأمن والأمان وملتقى الأديان، مكافحة التدخين، التطورات العالمية الجديدة، تآلف المصريين مسلمين وأقباطًا على مر التاريخ، قضايا السكان وتنظيم الأسرة، دعم نضال الشعب الفلسطينيّ. ¬¬¬¬
كذٰلك اهتم “البابا شنوده الثالث” بإنشاء المركز الثقافيّ القبطيّ الأرثوذكسيّ لنشر الثقافة للكل. وفي سنة 2012م رحل عن عالمنا “البابا شنوده الثالث”، تاركًا لنا إرثًا كبيرًا من الكتابات والمحاضرات والمقالات والتسجيلات؛ فاستحق أن يطلق عليه “ذهبي الفم للقرن العشرين” … والحديث في “مِصر الحلوة” لا ينتهي!
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ