«الصوم» …للأنبا إرميا

والصوم هو أحد الأركان المهمة التى نادت بها الأديان، ففيه تسمو روح الإنسان على الجسديات، فتنطلق نحو الله جابلها وخالقها لتتمتع ببركات لا تحصى وسُمو لا يُدرك. فى الصوم يحاول الإنسان أن يسيطر على رغبات الجسد ومتطلباته من طعام وشراب وغيرهما حتى تتحرر الروح منها وترتقى فيتسامى الإنسان روحًا وجسدًا، وهو تدريب للنفس على قوة التحمل والإرادة والعزيمة. والصوم يقهر الشيطان بكل حيله ومحاولاته فى الإيقاع بالإنسان، فمن تتقوى روحه بالله لا تغلبه قوى الشر.

 

 

وقد تحدثت الأديان عن الصوم وقوته ومكانته عند الله:

 

 

ففى اليهودية، نجد الملك «يَهُوشافاط» حين أتت عليه جيوش كثيرة من «بنى موآب» و«بنى عمون» أنه خاف: «وَجَعَلَ وَجْهَهُ لِيَطْلُبَ الرَّبَّ، وَنَادَى بِصَوْمٍ فِى كُلِّ يَهُوذَا»؛ فجاءه رد الله على فم نبيه: «هٰكذَا قَالَ الرَّبُّ لَكُمْ: لَا تَخَافُوا وَلَا تَرْتَاعُوا بِسَبَبِ هٰذَا الْجُمْهُورِ الْكَثِيرِ، لِأَنَّ الْحَرْبَ لَيْسَتْ لَكُمْ بَلْ لِلهِ.».

وحين تعرَّض شعب الملكة «أستير» للفناء، طلبت أن تقام الأصوام وتُرفع الصلوات كى يعطيها الله نعمة أمام الملك وتنقذ شعبها، وقد نجَّى الله شعبه وتحول يوم الهلاك إلى يوم عيد. وتوبة «أهل نينوى»، التى مُزجت بصومهم من كبيرهم إلى صغيرهم، قبلها الله ولم يهلكهم.

 

 

وفى المَسيحية، السيد المسيح قدَّم إلينا مثالاً فى الصوم: «فَبَعْدَ مَا صَامَ أَرْبَعِينَ نَهَارًا وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً، جَاعَ أَخِيرًا»، وعلَّمنا أن الغلبة على الشيطان وحروبه لا تكون إلا بتسامى الروح بالصوم والصلاة: « فَقَالَ لَهُمْ: هذَا الْجِنْسُ (أى الشيطان) لَا يُمْكِنُ أَنْ يَخْرُجَ بِشَىءٍ إِلَّا بالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ»؛ وهكذا تسلَّم تلاميذ السيد المسيح ورسله أهمية الصوم فكانوا يصومون كثيرًا، وسلَّموا الكنيسة ما رأوه وتسلموه من سيدهم المسيح عن الصوم.

 

 

وفى الإسلام، نجد فى «سورة مريم» الصوم عن الكلام: ﴿فَقُولِى إِنِّى نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا﴾، وفى «سورة البقرة»: ﴿يَٰا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾.

 

 

وأيضًا: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾، وأن الصوم خير الإنسان: ﴿وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾، وهو لله ففى حديث قدسىّ: «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ، الحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا، إلى سَبْع مِائَة ضِعْفٍ، قالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: إلَّا الصَّوْمَ؛ فإنَّه لى، وَأَنَا أَجْزِى به، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِن أَجْلِى…».

 

 

والصوم يصحبه ثلاث سمات أساسية: التوبة، الصلاة، العطاء. يقول يوئيل النبىّ: ««وَلكِنِ الآنَ، يَقُولُ الرَّبُّ، ارْجِعُوا إِلَيَّ بِكُلِّ قُلُوبِكُمْ، وَبالصَّوْمِ وَالْبُكَاءِ وَالنَّوْحِ. وَمَزِّقُوا قُلُوبَكُمْ لَا ثِيَابَكُمْ». وَارْجِعُوا إِلَى الرَّبِّ إِلهِكُمْ لِأَنَّهُ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ، بَطِىءُ الْغَضَبِ وَكَثِيرُ الرَّأْفَةِ…».

 

 

إن أوقات الصوم، لفرصة لأن يجلس الإنسان فيها إلى نفسه، يحاسبها، نادمًا عما اقترفه من آثام وتعديات ومعاصٍ، فيسارع قلبه بتقديم توبة صادقة إلى الله قد تغير حياته وتعيده إلى الطريق الصحيح. ومن المفيد أن يتزامل الصوم والصلاة، فالصوم هو فرصة اقتراب إلى الله بحديث الصلاة.

 

 

وتحضرنى كلمات تقول: «دائمًا الصوم يقترن بالصلاة… الصوم دون صلاة هو كبت وحرمان، لكنه بالصلاة يتحول إلى انطلاق روحى للنفس». وفى الصوم أيضًا يشعر الإنسان بضعفه وبالجوع والعطش مما يُلقى بوميض رحمة فى قلبه تجاه المساكين والمعوزين والمتألمين، فينطلق الإنسان فى عمل الخير والرحمة مع كل إنسان يلتقيه.

 

 

يقول «القديس يوحنا الذهبىّ الفم» بطريرك القسطنطينية: «إن كنت تصوم دون صدقة، فلن يُحسب هذا العمل صومًا». وهكذا نجد أعمال الرحمة والخير والعطاء تزداد وتكلل جبين الصائم أمام الله. كل عام وجميعكم بخير، و… والحديث فى «مِصر الحلوة» لا ينتهى!.

 

 

* الأسقف العام

 

 

رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى