بدأت المقالة السابقة الحديث عن «القدس»، مدينة السلام التى نالت شهرة واسعة ومكانة كبيرة فى التاريخ الإنسانىّ، وذكرت أن اسمها العبرىّ هو «أورُشليم»، الذى ورد ذكره أول مرة بالكتاب المقدس عند لقاء أب الآباء «إبراهيم» و«مَلْكى صادَِق» ملك ساليم. وقد تأسست مدينة «أورُشليم» على يد اليَبوسيين ودُعيت باسم «يَبوس» نسبةً إلى مؤسسيها، فى حين يُطلق اسم «أرض كَنعان» على مدينة «يَبوس» والمدن المحيطة بها. أما اسم «أورُشليم» فيعود إلى الإله «شالِم» الذى هو إله السلام عند الكَنعانيين، فى الوقت الذى يعتبره البعض اسمًا من أصل عبرىّ يعنى «امتلاك السلام» أو «أساس السلام». أما الاسم العربىّ للمدينة فهو «القدس» أو «بيت المقدس».
بعد ذلك ذُكرت مدينة «أورُشليم» فى أيام «يشوع النبىّ» الذى قاد شعب إسرائيل بعد وفاة كليم الله «موسى النبىّ»، فى أثناء توجه الشعب العبرانىّ إلى أرض «كَنعان» التى أخذوا آنذاك وعدًا من الله بأن تصبح أرضهم. وفى أثناء دخول «يشوع النبىّ» إلى «كَنعان»، نجد ذكرًا للملك «أَدونى صادَق» الذى قيل فيه إنه ملك «أورُشليم». وقد قرر الملك «أَدونى صادَق» محاربة «إسرائيل»: «فلما سمِع أَدُونى صادَق ملِك أورُشليم أن يشوع قد أخذ عاى وحرّمها، كما فعل بأريحا وملِكها فعل بعاى وملِكها، وأن سكان جِبْعون قد صالحوا إسرائيل وكانوا فى وسطهم، خاف جدًّا»؛ وأرسل إلى ملوك مدن «حَبرون» و«يَرمُوت» و«لَخِيش» و«عَجلون» يطلب مساندتهم فى محاربة الجِبعونيين الذين صالحوا «يشوع النبىّ». وعندنا علِم الجِبعونيون بقدوم الجيوش عليهم، أرسلوا إلى «يشوع النبىّ» ليخلصهم من الملوك الآتين عليهم، فجاء لنجدتهم وحارب الملوك الخمسة وهزمهم وقتلهم جميعًا. إلا أن الكتاب يذكر أنه فى أيام «يشوع النبى» سكن اليَبوسيون مع بنى إسرائيل: «وأما اليَبوسيون الساكنون فى أورُشليم فلم يَقدِر بنو يهوذا على طردهم، فسكن اليَبوسيون مع بنى يهوذا فى أورُشليم»؛ وقد كانت أورُشليم من نصيب سبط «بَنيامين» أصغر أبناء «يعقوب النبىّ».
وبعد نياحة «يشوع النبىّ»، بدأ عهد القضاة الذين حكموا العبرانيين، وفى أثناء تلك الحقبة حارب بنو إسرائيل الكنعانيين والفِرِزِّيين وهزموا ملكهم «أَدُونى بازَق»: «وأمسكوه وقطعوا أباهِمَ (كل إصبع إبهام من) يديه ورجليه. فقال أَدُونى بازَق: «سبعون ملكًا، مقطوعة أباهِمُ أيديهم وأرجلهم، كانوا يلتقطون تحت مائدتى. كما فعلتُ كذلك جازانى الله». وأتَوا به إلى أورُشليم فمات هناك». ثم حارب «بنو يهوذا» مدينة «أورُشليم» وأخذوها وأشعلوها بالنار، ولكن ظل اليَبوسيون يعيشون فيها مع البَنياميين.
ثم يأتى ذكر مدينة «أورُشليم» عندما استطاع «داود النبى» أن يهزم الرجل المبارز الجبار «جُليات» ويقطع رأسه، فى أثناء حرب الإسرائيليين مع الفلسطينيين: «وأخذ داود رأس (جُليات) الفلسطينىّ وأتى به إلى أورُشليم، ووضع أدواته فى خيمته». ثم ملك «داود النبى» أولاً فى حَبرون، ثم ملك على جميع أسباط بنى إسرائيل، فقرر أن يجعل من «أورُشليم» عاصمة له بعد أن استولى على «حصن صهيون» بها ودعاه «مدينة داود»: «فى حَبرون ملَك على يهوذا سبع سنين وستة أشهر. وفى أورُشليم ملك ثلاثًا وثلاثين سنة على جميع إسرائيل ويهوذا». عاش «داود النبىّ» بمدينة «أورُشليم»، وبنى لنفسه بيتًا من خشب الأَرز، ثم أحضر تابوت عهد الله من بيت «عُوبِيد أدوم» إلى «مدينة داود»، ووضع التابوت بالخيمة التى نصبها له. ثم فيما بعد اشترى «داود النبىّ» بَيدرًا (مكانًا لجمع محاصيل الأرض وتخزينها) يمتلكه شخص يُدعى «أَرُونة اليَبوسى» كى يبنى عليه هيكلاً للرب، لكن الله قال لداود النبىّ – بفم «ناثان النبىّ» – إن بيت الرب سوف يبنيه ابنه «سليمان الملك» من بعده. فأعد «داود النبىّ» لابنه «سليمان» ما يحتاج إليه لبناء الهيكل الذى عُرف فيما بعد باسمه: «هيكل سليمان»؛ ثم أوصاه قبل وفاته: «أنا ذاهب فى طريق الأرض كلها، فتشدد وكُن رجلاً. احفظ شعائر الرب إلهك، إذ تسير فى طرقه، وتحفظ فرائضه، وصاياه وأحكامه وشهاداته، كما هو مكتوب فى شريعة موسى، لكى تُفْلِح فى كل ما تفعل وحيثما توجهتَ. لكى يُقِيم الرب كلامه الذى تكلم به عنى قائلاً: إذا حفِظ بنوك طريقهم وسلكوا أمامى بالأمانة من كل قلوبهم وكل أنفسهم، قال: لا يُعدم لك رجل عن كرسىّ إسرائيل». وما يزال حديث «القدس» يأخذنا… والحديث فى «مصر الحلوة» لا ينتهى!.
* الأسقف العام
رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى