«رحِم الله شعبه»! للأنبا إرميا

وفى تلك الأيام أيضًا تعرضت «مِصر» لهبوط فى مياه النيل وتأثرت تأثرًا شديدًا، فيذكر المؤرخ «أنبا ساويرس ابن المقفع»: «فشَرِقت (جفت) البلاد وخرِبت، وهلكت الرعية وتفرقت، وتشتتت الخلائق وتمزقت، ومضى خَلق كثير من ديار (مِصر) إلى (الشام) بأموالهم وأولادهم، فهلكوا، وأخذوهم العربان فى الطريق وماتوا بالبرد والجوع والقتل»، كما تعرضت «مِصر» وشعبها لنكبات الغلاء والجلاء والوباء حتى أكل الناس بعضهم بعضًا!!!، إلا أن بعض كبار الناس الأغنياء من المسلمين والمسيحيين كانوا يتصدقون على الفقراء على قدر طاقتهم. واستمرت تلك السنون العجاف حتى سنة 599هـ (1202م) إلى أن رحِم الله شعبه من الغلاء وعاد الأمن لطرق السفر.

ويُذكر أنه فى أيام «البابا يوحنا السادس» توقف إرسال أساقفة من كنيسة الإسكندرية إلى المدن الخمس الغربية- التى تقع فى منطقة «بَرْقة» الحالية إحدى الولايات الثلاث المكونة «لليبيا» الآن- التى كانت تابعة للكرسى المَرقسىّ السكندرى، إذ كانت الكنيسة القبطية ترسل أساقفة إلى تلك المدن بانتظام منذ القرن الأول الميلادىّ حتى القرن الخامس حين بدأ الأباطرة الرومان فى مقاومة بطاركة الكنيسة، ثم قلت أعداد المسيحيين بتلك المنطقة وتوقف إرسال الأساقفة إليها منذ عهد ذلك الأب البطريرك.

وفى سنة 1216م، تنيح «البابا يوحنا السادس»، بعد أن قضى على الكرسى المَرقسىّ 27 عامًا، وقد حزِن عليه المِصريون جميعًا، مسلمين وأقباطًا، فيذكر المؤرخ «القَس مَنَسَّى يوحنا»: «وكان لموته رنة حزن، لأنه كان محبوبًا من الجميع من أقباط ومسلمين. وكان أشد الناس حزنًا عليه بطريرك الروم الأرثوذكس، فقد شُوهد يبكى عند تشييع جنازته بكاءً مرًا. غير أنهم دفنوه بغير أن يحتفلوا به احتفالًا عظيمًا، لأن من عادة المصريين أن يعجلوا بدفن موتاهم، ولما كان موته بغتة لم يتمكن أحد من أساقفة الإيبارشيات من حضور جنازته». وقد شهِد المؤرخون عن «البابا يوحنا السادس» أنه عاش حياة الزهد فى المال، وأنه ألغى «السيمونية» (الحصول على الرتب الكهنوتية بالمال)، وقيل عنه: «وكان مُثْرِيًا (كثير المال) فلم يشَأ أن يُثقل على الأمة فى شىء، بل عاش كل أيام رئاسته يصرف على نفسه ومن معه، ويتصدق على الفقراء من ماله الخاص». وقد ذكر كاتب سيرة «البابا يوحنا السادس» ما حدث قبل نياحته بيوم واحد: فذكر أن والده كان حاضرًا مع عدد من شيوخ القبط بـ«مِصر» لدى الأب البطريرك، وذكر أنه غُشى عليه قرابة ثلاث ساعات، ثم فتح عينيه وتحدث مع الحاضرين، وسألهم عن منصور تلميذه، وكان مريضًا، فقيل له إنه مات، فطلب إليهم أن يكفنوا تلميذه ويدفنوه لأنه سيكون عنده غدًا!، قاصدًا أنه سيفارق الحياة مثله فى الغد. ثم غُشى عليه مرة ثانية، وحين فتح عينيه قال لمن لديه من الحضور إنه سيكون خلاف شديد بين الرعية عمن يقدَّم بطريركًا، وسيظل الكرسى المرقسىّ شاغرًا زمانًا طويلاً. وفى اليوم التالى، تنيح «البابا يوحنا»، ودُفن إلى جانب قبر «البابا زخارياس». وظل الكرسىّ المَرقسىّ خاليًا من بعد نياحة «البابا يوحنا السادس» قرابة 19 عامًا إلى أن سِيم «البابا كيرلس الثالث» (ابن لُقلُق) ليصير الخامس والسبعين فى بطاركة الإسكندرية. و… والحديث فى «مِصر الحلوة» لا ينتهى!.