أتمت المقالة السابقة الحديث عن «البابا كِيرِلُّس الثانى» المتنيح عام ١٠٩٢م؛ واليوم يجرى الحديث عن تاليه: «البابا ميخائيل الثانى».
«البابا ميخائيل الثانى» (١٠٩٢- ١١٠٢م)
الثامن والستون فى بطاركة الإسكندرية. فبعد نياحة «البابا كيرلس الثانى»، اجتمع مقدّمو كهنة الإسكندرية إلى أراخنة الشعب (كبار الأقباط)؛ لاختيار الأب البطريرك الذى يصلح لحمل هذه المسؤولية العظيمة.
ويذكر المؤرخون أنهم قضوا أيامًا لاختيار الخليفة الجديد لـ«مار مرقس الرسول»، لكنهم لم يتفقوا على رأى واحد؛ فخرجوا للاجتماع إلى الآباء الأساقفة وتناقشوا طويلًا، وأيضًا لم يُستقر على رأى!، ثم اجتمعوا إلى آباء أساقفة من الصعيد فى «كنيسة الشهيد مرقوريوس» لمناقشة الأمر معهم، حيث ذكروا أسماء عدد من الرهبان، لكنهم لم يتفقوا على أحد؛ فقرروا الاجتماع إلى الآباء الرهبان بـ«برية شيهيت» بوادى النطرون؛ من أجل إقامة الصلوات واختيار من يصلح للكرسى المرقسىّ.
وفى «دير القديس مقاريوس الكبير» بوادى النطرون، اجتمعوا وتناقشوا مجددًا، حتى طُرح اسم الراهب السريانى «صموئيل الحبيس»، فقرروا إقامته بطريركًا؛ وتوجه عدد منهم لأجل إحضاره.. إلا أنه قبل وصولهم إليه، دبر الله لقاءهم بعض الأشخاص الذين أعلموهم بأن إيمان الراهب «صموئيل» ليس إيمانًا مستقيمًا بحسب الكنيسة الأرثوذكسية؛ فتراجعوا عن ذلك الاختيار. وقضوا أيامًا فى الصلوات ودراسة الأمور، حتى ذُكر لهم أن فى قلاية «سِنجار» راهبًا قَسًّا حبيسًا يسمى «ميخائيل»: عالمًا فاضلًا، ذا إيمان مستقيم، يصلح لهذه المسؤولية العظيمة؛ ويذكر كاتب السيرة: «فساروا بأجمعهم إلى (سِنجار)، واجتمعوا بجماعة من أهلها، وسألوهم عن قضية أمره. فما من أحد ممن يسألونه عنه إلا ويصفه بالأوصاف الجميلة. فلما تحققوا ذلك، اجتمع رأيهم على تصييره بطريركًا». وعندما اجتمعوا إليه، امتحنوا إيمانه وعلمه، ولما وجدوا فيه شيئًا كثيرًا من العلم، قرروا سيامته بطريركًا، ووضعوا له ثلاثة شروط:
1- أن يحرِّم السيمونية (نَيل الدرجات الكهنوتية مقابل دفع أموال)، إذ تمنعها قوانين الكنيسة وتأمر بإبعاد من يمارسها.
٢– أن يلتزم بدفع أموال لكنائس الإسكندرية من أجل تعميرها وإقامة الصلوات.
٣– أن يرد على أساقفة بعض الكراسى ما اغتصبه بعض البطاركة السابقين من أموال أو كنائس تابعة لهم.
فوافق الراهب القس «ميخائيل الحبيس» على تلك الشروط، وأقرها كتابةً بخط يده فى أربعة نسخ؛ ثم اصطحبوه إلى «كنيسة السيدة العذراء» (المعلَّقة) حيث رُسم بطريركًا على كرسىّ «مار مرقس الرسول»، عام ١٠٩٢م، فى أيام حكم الخليفة «المستنصر».
ولم يمضِ وقت طويل حتى تقدم أسقف مصر إلى الأب البطريرك يطلب إليه الوفاء بما تعهد به ورَدّ الكنائس، لكنه أنكر ذلك زاعمًا أنه رفض هذه الشروط – وكان قد استطاع الاستيلاء على ثلاث نسخ، فى حين ظلت الرابعة مع أسقف مِصر الذى واجه البطريرك بما كُتب!!، فحاول البطريرك أخذها منه فأبى. ازدادت الأمور سوءًا بين البطريرك وأسقف مِصر، حتى منع البابا أسقفَ مِصر من إقامة الصلوات. فقصد الأسقف «دير القلمون» بالفيوم، وأقام هناك حتى اضطُر البابا إلى إعادته بعد ثورة الشعب عليه، وظل البابا والأسقف متسالمين زمنًا، ثم عاد النفور بينهما، فقرر البطريرك التخلص من أسقف «مِصر»، إذ عقد مجمعًا من الأساقفة على أسقف مِصر، وادعى أنه خالف قوانين الكنيسة، فأقر المجمع وجوب قَطعه من رتبته؛ فلما علِم الأسقف بهذا الاتهام اختفى، فوضع البطريرك يده على كنائسه!!. وفى السنة الثانية على تولى «البابا ميخائيل الثانى»، مرِض أمير الجيوش، فتولى الأمور ابنه «الأفضل» بعد أن كتب له «المستنصر» أمر تقليده شُؤون الدولة، ثم تُوفى الخليفة «المستنصر بالله»، وتولى الحكم من بعده ابنه «المستعلى بالله».
وقد حدث فى أيام ذلك البطريرك أن قَلّت مياه «النيل» فى «مِصر»؛ ما دعاه إلى السفر إلى ملك الحبشة، فقابله بالتَّرحاب. ولما علِم ملك الحبشة بأمر «النيل»، أمر بفتح أحد السُّدود؛ فوصلت المياه إلى أرض «مِصر». وكانت تلك هى الزيارة الأولى لأب من بطاركة كنيسة الإسكندرية إلى «الحبشة» منذ خضوعها دينيًّا لـها. بعد ذلك، تُوفى مطران الحبشة، فأرسل ملك الحبشة يطلب سيامة مطران آخر، فرسم الأب البطريرك للأحباش راهبًا يُدعى «جرجس»، وسافَر إلى «الحبشة»؛ إلا أنه كان محبًّا للمال، فلم يقبل به الأحباش، وألزمه ملك الحبشة بإعادة جميع الأموال، ثم أعاده إلى «مِصر». وأرسل ملك الحبشة شكواه إلى الوزير «الأفضل»، فقبض على المطران وأودعه السجن حتى مات.
وفى عام ١١٠٢م، أصيب الأب البطريرك بالطاعون، وتُوفى بعد أن قضى فى الرئاسة الكهنوتية ٩ سنين و٧ شهور ونصف الشهر؛ ثم خلفه «البابا مقار الثانى». و… والحديث فى «مصر الحلوة» لا ينتهى!
* الأسقف العام
رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى