تحدثت فى مقالة سابقة عن السلطان «صلاح الدين بن أيوب» الذى تولى وَزارة «مِصر» سنة 564 هـ (1169 م)، الملقب بـ«الملك الناصر»، وإقامته الخُطبة لـ«بنى العباس»، ثم تقلده حكم «مصر» بعد موت الخليفة «العاضد بالله».
أما بطاركة تلك الحقبة وأحوال الكنيسة القبطية، فقد توقف الحديث عند «البابا مقارة الثانى» (1102 م- 1128 م) الـ69 فى بطاركة الإسكندرية، الذى شهِدت أيامه عدة أحداث، منها: وصول حملة «الفَِرَِنجة» إلى «الفَرَما» ونهبهم المدينة وحرقها، ثم خطتهم للهجوم على «مِصر»، لكن الأمر لم يكتمل لهم بسبب مرض رئيسهم وموته، وأيضًا قتل الوزير «الأفضل بن بدر الجمالىّ»، وموت الخليفة «الآمِر بالله» مقتولا سنة ٥٢٤ هـ (١١٣٠ م). وقد تنيح «البابا مقارة الثانى» سنة 1128 م، بعد أن قضَّى على كرسىّ «مار مَرقس الرسول» 26 سنة وبضعة أشهر، وخلفه «البابا غبريال بن تريك».
البابا غبريال الثانى (1131- 1145 م)
السبعون فى بطاركة الكرسى المَرقسىّ الإسكندرى. ويذكر لنا القمص «مَنَسَّى يوحنا»، المؤرخ الكنسى، أن الكنيسة ظلت زمنًا دون أب بطريرك بعد نياحة «البابا مقارة الثانى»، بسبب غضب الخليفة على المَسيحيين بعد أن وشى بهم كاتبان يعملان فى ديوانه كذبًا بأنهم يمُدون الفرنج بالأموال، فلم يتمكن الأقباط من طلب سيامة أب بطريرك.
وحدث بعد زمن أن قام الجند على هذين الكاتبين وقُتلا، وقام بعدهما رجل من الملكيين، فطلب إليه الأقباط أن يتدخل ويستأذن لهم فى إقامة أب بطريرك من الوزير «أحمد بن الأفضل»، فأجاب طلبهم ووقع الاختيار على رجل من الكُتاب يُدعى «أبا العلاء بن تريك»، بتول لم يتزوج، ابن عائلة قبطية قديمة، مشهورًا بالنزاهة والأمانة، حتى إنه حين صار شماسًا فى كنيسة أبى السيفين طلب الوزير إليه أن يستمر فى وظيفته، رافضًا أن يتركه لأجل أمانته.
وقد ذكر «ساويرس ابن المقفع» عنه: «رجل كهل، عاقل، صالح، عالم، خبير، ذو سيرة جميلة وصدقة كثيرة وبر ومعروف، محب للصلوات والقداسات، وخدمة الكنائس والغرباء والمرضى، مفتقد الأرامل والأيتام ومَن فى السجون والضيق، مجتهد فى قراءة الكتب وتفسير معانيها والبحث عنها، ناسخ جيد قبطى وعربى.. يخدم فى ديوان المكاتبات وقتًا، وفى بيت المال وقتًا. ومن كتابة (بيت المال) أخذوه لما وقع عليه الاتفاق وكرزوه بطركًا».
ويذكر الأب «مَرقس بن زرعة»، كاتب سيرة «البابا غبريال الثانى»، أن الكرسىّ المرقسىّ خلا زمنًا طويلا، فاجتمع الأراخنة لاختيار بطريرك، وذهبوا إلى «دير القديس أبومقار»، فأشار عليهم رهبانه بالذهاب إلى أحد الآباء الرهبان القديسين بـ«دير السريان» اسمه «أبويوسف» لأخذ بركته ومشاورته، فلما ذهبوا إليه وحادثوه بأمر البطريركية ومن يصلح لها، قال: «ارجِعوا إلى منازلكم فقد تعِبتم فى مجيئكم إلى ههنا فإن بطركم فى «مِصر»! وأشار إليه وسماه لهم، وقال لهم: هو فلان ابن تريك. فرجَعوا، وفعلوا كما قال لهم». وهكذا سُمح للأقباط بالرسامة حين قدموا اسمه، ورُسم بطريركًا بالإسكندرية، ثم فى أديرة وادى النطرون وكانت سيامته سنة 1131 م، فى خلافة «الحافظ لدين الله» (524- 544 هـ) (1130- 1149 م).
وقد منع هذا الأب البطريرك دفن الموتى من الآباء الكهنة بالكنائس، ونقل بإكرام جزيل جسد «البابا مقارة الثانى» من «الكنيسة المعلَّقة» بمصر القديمة إلى «دير القديس أبومقار».
وفى زمان ذلك الأب البطريرك، تولى وزارة «مِصر» أمير من أمراء الدولة يُدعى «رِضوان بن وَلَخْشِى»، كان والى «عسقلان» ثم «الغربية» قبل الوزارة، عانى منه الأقباط إذ يُذكر أنه: «أول وزير أمر ألا يستخدموا النصارى فى الدواوين الكبار ولا نظار ولا مشارفين، وأن يشدوا زنانيرهم فى أوساطهم، ولا يركبوا الخيل، وضاعف عليهم وعلى اليهود الجزية…». و… والحديث عن «مِصر الحلوة» لا ينتهى!.
* الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى