استكملت مقالة سابقة أحداثًا شهِدها عهد «البابا غبريال الثانى» (السبعين في بطاركة الإسكندرية) من فقدان «كنيسة مار جرجس بمنية زفتى»، واستعادتها، ثم تعرض الآباء الرهبان لوشاية أحد الرهبان لدى الخليفة «الحافظ»، الذي أدرك عدم صدق كلام الراهب المشتكى وأعاد للرهبان كرامتهم. وبعد نياحة «البابا غبريال الثانى» خلفه «البابا ميخائيل الثالث»؛ ليصير الحادى والسبعين في بطاركة الإسكندرية.
وقد ذُكر أن أحد الآباء الرهبان القديسين من «دير أبومقار»، يُدعى «أبا الخير الِابْسَلْمُدس» (أى المرتل)، كان قد تنبأ عن سيامة «البابا ميخائيل الثالث»، فيذكر كاتب سيرته: «هذا «أنبا ميخائيل» البطرك كان قد مرِض قبل بطريركته مرضة صعبة شديدة أشرف فيها على الموت، إنه (يقصد القديس «أبوالخير المرتل») قال لقوم من الرهبان سألوه عن مرضه (مرض الراهب «ميخائيل»): إنه لا يموت في هذه المرضة، ولا يموت إلا بعد أن يصير بطركًا».
وقد ذُكر عن «الراهب ميخائيل» أنه كان يجهل القراءة والكتابة سواء بالقبطية أو العربية؛ ويعلق القَس «مَنَسَّى يوحنا»: «ومع أن هذا الراهب كان معروفًا بشدة التقوى والنسك، فإنه كان لا يدرى شيئًا من العلم، ولم يكُن يعرف القراءة ولا الكتابة سواء بالقبطية أو العربية، ولم يمنع ذلك من انتخابه لشدة لياقته لذلك المنصب الخطير».
ومع جلوس «البابا ميخائيل الثالث» على الكرسىّ المَرقسىّ، وهب له الله ذهنًا متقدًا وكثيرًا من الحكمة، وقد أحبه الشعب محبة كثيرة وأطاعوه، وكان هو يفرح بحضور أفراد الشعب في الكنيسة يصلون ويتعبدون لله، فيدعو لهم بالخير. ورسم بعد أيام قليلة من جلوسه على الكرسىّ المرقسىّ خمسة في رتبة الأسقفية، منهم: أسقف لكرسىّ «شبرا الخيمة»، وأسقف لكرسىّ «شبرا دمنهور»، وأسقف لكرسىّ «منية بنى خصيب».
ومما ذُكر عن «البابا ميخائيل الثالث» أنه كان شيخًا جليلًا، محبًّا للفقراء والمساكين، له كاتب يحرر له ما يريد إرساله إلى الأساقفة والكهنة من العظات والتعاليم، متشددًا ومؤدبًا المتكبرين وكل من يخطئ من الرهبان. قضى على الكرسىّ المَرقسىّ مدة قصيرة جدًّا لم تمتد سوى ثمانية أشهر (وقيل تسعة) وبضعة أيام، حيث أقام قرابة الثلاثة الأولى منها بصحة وعافية، ثم مرض وطال به المرض فأتوا به إلى «دير القديس مقاريوس» حيث تنيَّح بسلام، وكان زمن رئاسته سلامًا وهدوءًا، وخلفه البابا «يوحنا الخامس».
«البابا يوحنا الخامس» (1146/1147- 1166م)
الثانى والسبعون في بطاركة الإسكندرية. وكان يسمى «يؤَنِّس بن أبى الفتح»، وهو أحد رهبان دير «أنبا يُحَنِّس» المرشحين للبطريركية في أثناء انتخاب سلفه «البابا ميخائيل الثالث»؛ فيذكر عنه المؤرخ الكنسىّ «أنبا ساويرس بن المقفع»: «كان راهبًا قديسًا.
قُسم (رُسم) شماسًا صالحًا مذكورًا في الرهبان من «دير أبويُحَنِّس». وكان قد حضر تقدمة «أنبا ميخائيل» المتنيح، وذُكر (وكُتب) اسمه في الرِّقاع (الأوراق) الثلاثة (أى من جملة الثلاثة) التي كتبوها ورفعوها على الهياكل». وقد وقع الاختيار عليه ليكون بطريركًا؛ فأرسلوا إليه عددًا من الآباء القساوسة ليُحضروه إلى «مِصر»، وعند حضوره رسم قَسًّا ثم قمصًا.
إلا أن «يؤَنِّس بن كدران» الراغب والساعى لمنصب البطريركية عاود الجِد في طلبه وتحقيق رغبته تلك؛ فرفع الأمر إلى الخليفة الذي أمر بعقد مجلس من الآباء الأساقفة ومن طلبوا تولى البطريركية.
فحضر لفيف من الأساقفة والقساوسة في مجلس ضم كبار رجالات الدولة، وحدثت مفاوضات وجرت مناقشات طويلة حتى ذُكر: «وجرى في ذلك خُطوب (أمور مهمة) ومفاوضات. فقال من حضر مِن الأساقفة والكهنة (إنه) ليس لهم بطرك، إلا من طلبوه ورغِبوا فيه ولا يكون هو طالبًا ولا راغبًا.. ولا يجوز لهم أن يقدموا عليهم من رغِب فيهم ولا من طلب بالسلطان».
وكُتب سجل بما حدث وأرسل الخليفة معهم الحاجب إلى «الإسكندرية» حيث عُقد مجلس لكهنة الإسكندرية وكبار الأراخنة، لاختيار من يرغبون في توليته منصب البطريرك. فاجتمعت كلمتهم على اختيار «يؤَنِّس بن أبى الفتح» فرُسم بطريركًا على كرسىّ «مار مَرقس الرسول» في أيام الخليفة «الحافظ لدين الله» و.. والحديث عن «مِصر الحلوة» لا ينتهى!.
* الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى