ولا تزال احتفالات اليوبيل الذهبى لذكرى انتصارات أكتوبر المجيدة تشير إلى قدرات كامنة فى شخصية المِصرى، ملقية بأضوائها الساطعة ليل الانحناءات والأزمات والعقبات التى قد تعترض حياته، فينفضّ عنها خاطًّا صفحات جديدة فى التاريخ.
لقد قدم المِصريون نموذجًا رياديًّا فى تحقيق النصر عندما استشرفوا بعيونهم الأبية عبور «قناة السويس» متخطين حاجز الزمن، ومتأججين برغبة عارمة فى تحطيم أسطورة «خط بارليف» ببسالة نادرة تنطلق من عزائم تحدت واقع الهزيمة، ومثابرة تخطت جميع العراقيل لتصنع ما أتى فى صف المستحيلات الأولى. وتحضرنى هنا كلمات الكاتب «چان كلود جيبوه» فى كتابه «الأيام المؤلفة فى إسرائيل»: «هل كان يتصور (أنور السادات) وهو يطلق فى الثانية من بعد ظهر السادس من أكتوبر دباباته وجنوده لعبور (قناة السويس)، أنه أطلق قوة عاتية رهيبة من شأنها أن تغير هذا العالم؟! إن كل شىء من «أورُوبا» إلى «أمريكا»، ومن «آسيا» إلى «إفريقيا»، لم يبقَ على حالته التى كان عليها منذ «حرب يوم عيد الغفران».
وفى ظل احتفالاتنا، لا يمكن أن نغض البصر عن عبقرية المِصرىّ وكفاءته فى إدارة الحرب؛ يذكر الچنرال «فارا هوكلى» مدير تطوير القتال فى الجيش البريطانى أن «الدروس المستفادة من حرب أكتوبر تتعلق بالرجال وقدراتهم أكثر مما تتعلق بالآلات التى يقومون بتشغيلها، فالإنجاز الهائل الذى حققه المِصريون هو عبقرية ومهارة القادة والضباط الذين تدربوا وقاموا بعملية هجومية، جاءت مفاجأة تامة للطرف الآخر، رغم أنها تمت تحت بصره؛ وتكملة لهذا أظهر الجنود روحًا معنوية عالية فى عداد المستحيل». وقف «خط بارليف» بساتره الترابى عائقًا أمام فكرة عبور القوات المصرية إلى «سيناء»، إذ كان يُعد أقوى خط تحصين دفاعى فى عصرنا الحديث آنذاك، ما جعل العدو يستغله عاملاً قويًّا فى بث روح اليأس فى نفوس المِصريِّين، عندما أعلنوا للعالم استحالة تدمير مثل هذا المانع أو تخطيه، لكن المِصرىّ لم يسلم بما ينشره العدو من أفكار، بل بدأ فى دراسة كيفية التغلب على تلك المشكلة. وهنا برزت العبقرية المِصرية عندما طلب اللواء «باقى زكى» الكلمة، بعد أن استمع إلى شرح من اللواء «طلعت» فى إمكانية نسف «خط بارليف» باستخدام المتفجرات، وهو ما يستغرق من ١٢ إلى ١٥ ساعة، مع خسائر بشرية تقدر بنسبة ٢٠%!! فقال: «الحل فى خرطوم المياه! وسنحتاج إلى طلمبات مياه ماصة كابسة صغيرة تحملها الزوارق الخفيفة، وتمتص الماء من القناة، وتكبسها، وتصوب مدافع مياه بعزم كبير على الساتر الترابىّ فتتحرك الرمال. ومَيل الساتر الترابىّ سيسمح بانهيار الرمال فى قاع القناة. ومع استمرار تدفق المياه، سنفتح ثُغرات فى الساتر بالعمق وبالعرض المطلوب، وعن طريق هذه الثُّغرات، يتم عبور المركبات والمدرعات إلى عمق سيناء.». وهكذا حطم المِصرىّ أسطورة «خط بارليف» بفكرة مَدافع المياه فى فتح ساتره الترابىّ، تمهيدًا لعبور القوات المِصرية إلى «سيناء».
أما عن كفاءة المقاتل المِصرىّ، فبرزت متفردةً فى المعركة، حتى إنها جذبت أنظار العالم بل العدو إليها؛ يقول «چورچ ليزلى» رئيس المنظمة اليهودية فى «استراسبورج» يوم ٢٩/١٠/١٩٧٣: «لقد أسفر عن الجولة الرابعة كارثة كاملة لـ«إسرائيل»! فنتائج المعارك والانعكاسات التى بدأت تظهر عنها فى «إسرائيل» تؤكد أهمية الانتصارات التى أنهت الشعور بالتفوق الإسرائيلى وجيشها الذى لا يُقهر، وأكدت كفاءة المقاتل العربى وتصميمه وفاعلية السلاح الذى فى يده». وها الملازم الأول الطيار الإسرائيلى «أورى يوسف أوار» تأخذه الصدمة من الكفاءة المِصرية معبِّرًا: «لقد أذهلنا المستوى الممتاز للطيارين المصريِّين… وكفاءاتهم القتالية العالية». إن تلك الكفاءة لم تكُن وليدة اللحظة أو اليوم، بل كانت نتائج عمل لا يتوقف من تخطيط وتدريب استمر سنوات وسنوات، فكان النصر وصُنع المستحيل!
و… والحديث فى «مصر الحلوة» لا ينتهى!
* الأسقف العام
رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى