تحدثت المقالة السابقة عن مرض «الملك الصالح أيوب» فى الوقت الذى كانت «دِمياط» فى حوزة الفرنج، وهم يواجهون جيشه قرب «المنصورة» حيث استمرت مناوشات وإغارات عليهم أشهرًا، تُوفى خلالها. لكن سرعان ما أخفت «شجرة الدر» زوجة «الملك الصالح أيوب» خبر موته، وانبرت هى لتضطلع بمسؤولية إدارة شؤون البلاد، إلى أن حضر ابنه «توران شاه» من «حصن كيفا» وملك من بعده.
ومما يُذكر عن «شجرة الدر» أنها كانت من أصل تركى- وآخرون يرون أنها أرمينية- وكانت إحدى جوارى «الملك الصالح أيوب»، ومع الوقت أخذت تحظى بمكانة عظيمة لديه، فقرر أن يعتقها، ثم تزوجها وأنجبت منه ولدًا سُمى «خليل». وقد أخفت «شجرة الدر» خبر وفاة «الملك الصالح أيوب»- فى أثناء مواجهته لحملة الفرنج التى استولت على «دِمياط» وبدأت فى الزحف نحو «المنصورة»- خشية إثارة روح اليأس بين الجنود والتأثير سلبًا فى معنوياتهم وهم يتصدَّون لحرب الفرنج؛ وطفِقت تدبر أمور البلاد قرابة ثلاثة أشهر، فيقول «ابن تَغْرى»: «فأخفت زوجته أم ولده «خليل»- «شجرة الدر»- موته مخافة على المسلمين، وبايعوا لابنه المعظم هذا بالسلطنة فى غيبته، وصارت «شجرة الدر» تدبر الأمور وتخفى موت السلطان «الملك الصالح» إلى أن حضر المعظم «توران شاه» هذا من «حصن كيفا» إلى «المنصورة»».
وكان يوم دخول «توران شاه» إلى «المنصورة» يوم انتصار على الفرنج. وقد حدث نتيجة استمرار القتال عدة أشهر أن بدأ يسرى الضعف فى صفوف الفرنج لانقطاع وصول مُؤَن الطعام عنهم، إلى جانب تفشى وباء أدى بخيولهم إلى موتها؛ وقرر ملك الفرنج العودة إلى «دِمياط» على جسر عظيم صنعوه على «النيل» وتركوه وراءهم دون أن يزيلوه؛ وما إن علِمت جيوش «الملك الصالح» حتى عبرت الجسر، وهجمت على الفرنج فقتلت وأسرت عددًا كبيرًا منهم. ولجأ الفرنج إلى قرية «مُنْيَة أبى عبد الله» (حاليًّا «ميت الخولى عبد الله» مركز فارسكور محافظة الدقهلية)، لكن جيوش «الملك الصالح» تمكنت من أسطولهم وجيوشهم فقتلت وأسرت منهم أيضًا، حتى ذُكر: «وكان فى الأسر ملوك وكنود (جمع كُنْد تعريب «كُونت») من الفرنج. وأُحصى عِدّةُ (عدد) الأسرى فكانوا نَيِّفًا وعشرين ألف آدمى، والذى غرق وقُتل سبعة آلاف نفس». وفيما بعد أطلق أمراء «الصالحية» سراح ملك الفرنج، بعد قتل الملك «توران شاه».
أما عن الملك «توران شاه»، فيذكر المؤرخ «شمس الدين بن قَزَأوغلى»: «ذكرنا مجيئه إلى «الشام» وذَهابه إلى «مِصر»، واتفق كَسْرةُ (هزيمة) الفرنج عند قدومه فتيمَّن الناس بطلعته، غير أنه بدت منه أسباب نفَّرت القلوب عنه، فاتفقوا على قتله. وكان فيه نوع خفة (خفة عقل وحماقة)… ثم احتجب عن الناس أكثر من أبيه؛ وكان إذا سكِر يجمع الشموع ويضرب رؤوسها بالسيف فيقطعها ويقول: كذا أفعل بالبحرية! يعنى مماليك أبيه… وكانت أم خليل (يعنى «شجرة الدر») زوجة والده «الملك الصالح» لما وصل إلى «القاهرة» مضت هى إلى «القدس»، فبعث يهددها ويطلب المال والجواهر منها فخافت منه، فكاتبت (المماليكَ البحرية) فيه، فاتفق الجميع عند ذلك على قتله»، وتمكن من قتله بعض مماليك أبيه البحرية بأبشع الطرق، ثم قطعوه إربًا وظل دون دفن مدة ثلاثة أيام حتى شفع فيه رسول الخليفة!!، وبعد قتله طلبوا مالاً من ملك الفرنج حتى يُطلقوه من الأسر، فقدم إليهم المال وانطلق من «مِصر». وكان «توران شاه» لا يصلح للحكم إذ ذُكر عنه: «كنا نقول لأبيه «الملك الصالح أيوب»: ما تُنْفِذ (تُرسل) تُحضره إلى ها هنا!، فيقول: دعونى من هذا. فألححنا عليه يومًا، فقال: أَجيبه إلى ها هنا أقتُله! (مِن فرْط كرهه إياه ونفوره منه لحُمقه وطياشة عقله واضطراب سلوكه»؛ وهكذا آل الحكم من بعده إلى «شجرة الدر» وخُطب لها على المنابر بـ«مصر» و«القاهرة». و… والحديث فى «مصر الحلوة» لا ينتهى!.
* الأسقف العام
رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى